يشهد العالم اليوم مرحلة استثنائية من التحولات العميقة والاضطرابات المتسارعة، حيث تتفاقم النزاعات الإقليمية، وتتزايد التحديات الاقتصادية والإنسانية، وتتسع فجوة الشمال والجنوب بشكل غير مسبوق.
في خضم هذه الأزمات، تبرز الحاجة الملحة إلى نظام دولي جديد يقوم على العدالة والتوازن، بعيداً عن هيمنة القطب الواحد وسياسات الإقصاء، وقائماً على التعاون والمنفعة المتبادلة.
في هذا السياق، تطرح الصين نفسها كقوة مسؤولة وفاعلة على الساحة العالمية، عبر مبادرات استراتيجية كبرى ورؤية متكاملة تهدف إلى صياغة نظام حوكمة أكثر إنصافاً وشمولية.
ومن خلال تحركات دبلوماسية متوازنة ومواقف واضحة من القضايا الساخنة، تقدم بكين اليوم ما يمكن تسميته بـ"الحلول الصينية" للتحديات المشتركة التي تواجه البشرية.
أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال قمة "منظمة شانغهاي للتعاون بلس" في مدينة تيانجين مبادرة الحوكمة العالمية، لتضاف إلى ثلاث مبادرات أخرى كبرى سبق أن أعلنها: مبادرة التنمية العالمية، مبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارات العالمية.
هذه المبادرات الأربع تشكل معاً ما يشبه "خريطة طريق" لإعادة صياغة النظام الدولي على أسس أكثر عدلاً وتوازناً.
وترتكز المبادرة الجديدة على خمسة مبادئ أساسية: احترام المساواة في السيادة، الالتزام بالقانون الدولي، التمسك بالتعددية، اعتماد نهج يركز على الشعوب، والتركيز على العمل الملموس. وهي مبادئ عملية تستجيب مباشرة للتحديات الراهنة، من عودة عقلية الحرب الباردة وسياسات الهيمنة، إلى تصاعد الأزمات العابرة للحدود مثل التغير المناخي والأمن الغذائي والذكاء
الاصطناعي.
شدد الرئيس شي على أن الأمم المتحدة يجب أن تظل الركيزة الأساسية للنظام الدولي، محذراً من مخاطر "المعايير المزدوجة" وفرض "قواعد محلية" من قبل بعض القوى الكبرى. وهنا تقدم الصين بديلاً يقوم على الانفتاح والتكامل وتشارك فرص التنمية، خصوصاً عبر مبادرة الحزام والطريق التي تحولت إلى منصة عالمية للتعاون والتنمية المشتركة.
الأهمية الخاصة لمبادرة الحوكمة العالمية تكمن في كونها تطرح تصوراً شاملاً للعالم في مرحلة الاضطراب، وتفتح الباب أمام بناء نظام دولي أكثر توازناً وعدالة، وهو ما وصفه خبراء دوليون بأنه "مبادرة في وقتها المناسب".
يتزامن طرح المبادرة مع مرور ثمانين عاماً على تأسيس الأمم المتحدة، وهو ما يمنحها بعداً إضافياً. فالصين تؤكد أن القضايا العالمية لا يمكن حلها إلا عبر هذا الإطار الجامع، لا من خلال تكتلات ضيقة أو آليات إقصائية. وهنا تبرز أهمية الرؤية الصينية التي تدعو إلى تعزيز التوافق السياسي عبر المنصة الأممية، وإلى وحدة المجتمع الدولي لمواجهة التحديات المشتركة.
لا تقتصر رؤية الصين على المبادرات الشاملة فحسب، بل تمتد إلى الملفات الأكثر إلحاحاً في السياسة الدولية. ففي ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، تدعو الصين إلى التنفيذ الصارم لحل الدولتين، وتؤكد دعمها لعضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، معتبرة ذلك خطوة أساسية نحو تسوية عادلة ودائمة.
هذا الموقف يعكس رفض الصين للمعايير المزدوجة: فإذا كان من حق إسرائيل أن تقيم دولة، فإن من حق الفلسطينيين أيضاً أن تكون لهم دولتهم؛ وإذا كانت حياة الإسرائيليين ثمينة، فإن حياة العرب لا تقل قيمة. الأمن الحقيقي لا يمكن أن يقوم على انعدام أمن الآخرين، وهذه هي الرسالة التي تبعث بها الصين من خلال التزامها بالعدالة والإنصاف.
إن من يتأمل الدبلوماسية الصينية يلاحظ منطقاً متكاملاً: من التصميم النظري إلى بناء المؤسسات، ومن ذلك إلى معالجة النزاعات العاجلة. هذه السلسلة المتكاملة تعكس الطابع المنهجي للرؤية الصينية: تصميم من أعلى إلى أسفل، مع تركيز على التنفيذ العملي، وربط المبادئ بالاستجابة لقضايا البشرية المشتركة.
التركيز على البعد الإنساني – عبر الدعوة إلى وقف الحروب، وإنهاء الكوارث الإنسانية، وضمان حقوق الشعوب – يمثل جوهر مبادرة الحوكمة العالمية. فهي تضع الإنسان في صدارة الأولويات، وتعتبر العدالة والكرامة أساس أي نظام دولي مستدام.
اليوم، يقف العالم عند مفترق طرق تاريخي، حيث لم يعد النظام القديم قادراً على مواجهة التحديات المشتركة. وهنا، تقدم الصين رؤية متكاملة تستحق أن يُصغى إليها، ليس لأنها "صينية" فحسب، بل لأنها تلبي حاجة ملحة للبشرية جمعاء في هذه المرحلة المفصلية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة