يشهد التعليم العالي تحولات عميقة بفعل الذكاء الاصطناعي، إذ لم تعد الجامعة المصدر الحصري للمعرفة، بعدما بات بإمكان الطالب الحصول على شرح مفصل لأي موضوع في ثوانٍ عبر الأنظمة الذكية.
هذا التحول لا يلغي دور الجامعة، بل يعيد صياغته: فوظيفتها المستقبلية تتمثل في أن تتحول من ناقل للعلم إلى فضاءٍ للتفكير النقدي وتعزيز الوعي الأخلاقي والاجتماعي. فالآلة تستطيع توليد محتوى غزير، لكنها تعجز عن تدريب العقل البشري على التمييز بين الحقيقة والزيف، وبين المعلومة الموثوقة والدعاية المضللة.
هنا يبرز دور الجامعة كحارس للعقل النقدي، ومكان لتعليم الطلاب كيفية طرح الأسئلة الصحيحة بدل الاكتفاء بإجابات جاهزة.
إلى جانب هذا البعد النقدي، يمكن للجامعات أن تتطور لتصبح مختبرات للتجريب الاجتماعي والبيداغوجي. فهي مؤهلة بحكم تعدد تخصصاتها للربط بين العلوم التقنية والإنسانيات، ولإطلاق برامج تدمج الحوسبة بالفلسفة والأخلاق لدراسة حدود الاعتماد على الآلة في صنع القرار. كما يمكنها أن توظف الذكاء الاصطناعي شريكًا في التدريس بدل أن تراه مجرد أداة مساعدة، بحيث يصبح الطالب أكثر فاعلية وانخراطًا في عملية التعلم.
بذلك، تتحول الجامعة إلى مؤسسة حية تعيد تشكيل رسالتها بما يتوافق مع حاجات المجتمع الرقمي.
لكن المسألة لا تتوقف عند البيداغوجيا، بل تشمل أيضًا بُعدًا استراتيجيًا يرتبط بالسيادة الرقمية. فإذا اعتمدت الجامعات كليًا على منصات مغلقة تملكها شركات كبرى، فإن استقلاليتها الأكاديمية ستكون مهددة. لذا يصبح من الضروري تطوير بنية تحتية رقمية محلية، ونماذج مفتوحة المصدر، لضمان أن تبقى الجامعة منتجًا للمعرفة لا مجرد مستهلك لها.
السيادة الرقمية هنا ليست تقنية فقط، بل مسألة سياسية وأكاديمية وأمنية تضمن للجامعات حريتها في رسم مسارها بعيدًا عن هيمنة الشركات العالمية.
كما يفرض الذكاء الاصطناعي إعادة تعريف العلاقة بين الجامعة والمجتمع. ففي الماضي، اقتصر دورها على تكوين النخب وتزويد سوق العمل بالكفاءات، أما اليوم فهي مطالبة بأن تكون فاعلًا مجتمعيًا يشارك في النقاش العام حول آثار الذكاء الاصطناعي على القيم والسياسة والاقتصاد. يمكن للجامعة أن توظف خبرتها لتدريب المواطنين على التعامل الواعي مع الأدوات الرقمية، والمساهمة في صياغة السياسات العامة، وتعزيز ثقافة الاستخدام المسؤول للتقنيات الذكية.
بهذا المعنى، تتحول الجامعة من مؤسسة أكاديمية مغلقة إلى مؤسسة مواطنة تتفاعل مع المجتمع وتؤثر فيه.
ومع أن هذه التحولات تتيح فرصًا هائلة، فإنها تواجه تحديات بارزة. من أهمها غياب استراتيجيات مؤسسية واضحة، مما يجعل كثيرًا من المبادرات فردية ومبعثرة.
كما أن التفاوت في الموارد بين الجامعات يؤدي إلى فجوة متنامية، حيث تستطيع المؤسسات الكبرى الاستثمار في الذكاء الاصطناعي بينما تعجز الجامعات الأصغر عن ذلك، وهو ما يهدد بظهور نظام تعليمي غير متكافئ. وهناك أيضًا خطر الاعتماد المفرط على الآلة، بما قد يضعف مهارات جوهرية كالكتابة النقدية والتفكير المستقل.
رغم هذه التحديات، فإن الجامعات تملك فرصة لتجديد نفسها إذا تبنت رؤية شاملة تجعل الذكاء الاصطناعي أداة للتطوير لا تهديدًا. فإن نجحت، ستعزز مكانتها كمؤسسة مركزية في المجتمع؛ وإن اكتفت بالردود الجزئية، فإن خطر تهميشها سيزداد.
في النهاية، يمكن القول إن الجامعة في عصر الذكاء الاصطناعي ليست مهددة بالزوال بقدر ما تواجه تحدي التحول. فهي مدعوة إلى إعادة تعريف رسالتها كمؤسسة للتفكير النقدي والتجريب الاجتماعي وحماية السيادة الرقمية والمشاركة المجتمعية، لتظل فاعلًا استراتيجيًا في صياغة مستقبل التعليم والمجتمع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة