حينما كنتُ جالساً في أحد مقاهي بيروت، أرتشف قهوتي، وأمزج طعمها برائحة دخان سيجارتي في أجواء صامته، كسر شخص السكون قائلاً وهو ممسك بالجريدة: صباح الخير، أسعار النفط تهبط!.
فقلت: صباح النور، وبشيء من التهكم سألتهُ: أسيكون ذلك سبباً لخفض أسعار الوقود هنا؟!.
ردّ عليَّ: نحن نرغب في زيادة سعرهِ، فلنا أبناء وأحفاد يعملون ويستثمرون في الدول العربية النفطية الشقيقة، وهم بذلك يشكلون مصدراً لحياتهم ولنا. ثم تنبهت حينها وأدركت بأن هذا المسن كان حكيماً بمنطقهِ، فمعظم العلاقات العربية العربية الاقتصادية والدعم التنموي والاستثمار وفرص العمل نابعةً من النفط والغاز، كما أن النظام الإقليمي العربي له تفاعلاتهِ السياسية والأمنية الخاصة به.
وهذه الحقيقة تبدو مدخلاً لعرض وتحليل مقارن بين النظام الإقليمي العربي ومنظومات الشرق الأوسط، فأهمية المقارنة لها جوانب عدة مثل الحديث المتكرر عن الانسحاب الأمريكي من المنطقة، وانتقال إسرائيل من منطقة القيادة الأمريكية الأوروبية “EUCOM” إلى القيادة المركزية “CENTCOM” الذي يمهد لمنظومة أمنية شرق أوسطية، وتتزايد أهمية المقارنة في ظل ما نشهده من حرب غزة والإبادة فيها ومحاولة التهجير إلى أحداث التاسع من سبتمبر.
نشأة النظام الإقليمي العربي، من نافل القول أن جميع الدول العربية متصلة جغرافياً ما عدا جزر القمر وكلا من جيبوتي والصومال المجاورتين لليمن بحرياً فقط، كما أن تكوين النظام العربي الإقليمي العربي أتى في إطار تأسيس جامعة الدول العربية (1945) واستمرار استقلال الدول العربية، فمنظمة الجامعة العربية تعود فكرتها إلى بريطانيا وتحديدا إلى خطاب السياسي البريطاني أنطوني إيدن "Anthony Eden" في مجلس العموم 1941-وهو رئيس الوزراء البريطاني لاحقاً في العدوان الثلاثي على مصر 1956- وكانت الفكرة مبنية على استراتيجية الحفاظ على النفوذ بريطانيا العظمى في المنطقة ومنع القوى الدولية آنذاك من دخول كألمانيا النازية وغيرها، هذا الأمر لا يقلل حقيقة الدور الكبير للقاهرة في أخذ الفكرة وتطبيقها لتحقيق هذا المشروع التنظيمي المرتبط بتعزيز الروابط العربية والرغبة في الاستقلال عن الاستعمار.
حقيقةً، مفهوم الأمن في النظام الإقليمي العربي دائماً يعاني من عدم وجود وحدة الخطر بين الدول المكونة له، وهذا التضارب في الرؤى الأمنية قاد إلى انقسامات وصراعات عربية عربية، حتى في مرحلة قبل استكمال استقلال جميع الأقطار العربية، ووصفت هذه الصراعات بالحرب الباردة العربية، وهذا المصطلح يعود إلى مالكولم كير “Malcolm Kerr”، حيث يوضح عبر هذا المصطلح بكتابهِ "عبد الناصر والحرب العربية الباردة" الصراعات العربية العربية بين المنظور الملكي التقليدي أمام الاشتراكية والمد الناصري التقدمي وبين الأنظمة العربية الجمهورية نفسها. فالنظام الإقليمي العربي حمل العديد من الانقسامات والصراعات ولعل أخطرها أحداث احتلال الكويت 1990، والتي تجاوزت خطورة الانقسامات الأخرى كتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ومن الأهمية بمكان ذكر بأن النظام الإقليمي العربي كان ومازال لا يعكس هرمية في القوة، بمعنى بأن هناك تفاوت بين دول في المساحة والقوة البشرية والجغرافية والقوة الاقتصادية والدبلوماسية.
أما خروج مصطلح الشرق الأوسط فقد كان عبر ألفريد ماهان الضابط البحري الأمريكي، ثم أخذ المصطلح ينتشر، كما أن منظومة الشرق الأوسط لم تتبلور كنظام إقليمي محدد أو منظمة، بل هي نتاج استراتيجيات ومبادرات وتحالفات، على سبيل المثال، تكون حلف بغداد 1955 على يد بريطانيا العظمى في سياق صد تمدد النفوذ الشيوعي والاشتراكي، وضم الحلف كلاً من العراق وتركيا كنواة مؤسسة، وباكستان وإيران، وكانت الولايات المتحدة تمثل دعمًا مباشرًا ضمن مبادرة أيزنهاور، لكنها لم تنضم رسميًا إلى عضويتهِ كبريطانيا العظمى، وقد بدأ "حلف بغداد" ينهار من الانقلاب على الملكية العراقية 1958، حيث نقل إلى العاصمة التركية أنقرة تحت اسم منظمة المعاهدة المركزية (CENTO)، ولينتهي بعدها بشكل نهائي مع الثورة الإيرانية وسقوط الشاه.
وقد ربط الشرق الأوسط الجديد بالسلام مع إسرائيل بعد تحرير الكويت ومسار أوسلو للسلام، كما تم الحديث عن العلاقات الاقتصادية الشرق أوسطية كمشروع يتوج السلام، ونجد اليوم طرحاً لمنظومة أمنية شرق أوسطية تجمع دولا عربية بغير عربية تحديدا إسرائيل، حيث تعود هذه الفكرة "إنشاء منظومة أمنية شرق أوسطية مشتركة" إلى ما خلفهُ اغتيال إسحاق رابين في 4 نوفمبر 1995 على يد متطرف بسبب الاتجاه نحو السلام مع الفلسطينيين، حيث اقترحت حكومة بيريز آنذاك على واشنطن مجموعة عمل ثنائية لاختبار إمكانية إقامة تحالفات أمنية إقليمية لدعم عملية السلام، وبعد هذه البداية حدثت متغيرات إقليمية ودولية خلقت بدورها دوافع ومقومات لإنشاء مثل هذه المنظومة، مثل الربيع العربي، وبروز المليشيات، والتوجس من الانسحاب الأمريكي من المنطقة، ومحاولة خلق حالات مقبولة من الاستقرار في المنطقة، وتزايد الدول الفاشلة، وتوغل الجيوبوليتيكية المذهبية الإيرانية في بعض الدول العربية، قطعاً، الأمن والاستقرار كهدف وغاية سيتطلب تعاون اقتصادي واستثماري واستخباراتي واتصال ثقافي ومعرفي، لكن هذه المنظومة الأمنية الشرق الأوسطية ربما لا ترى النور للأسباب التالية:
1. حرب غزة بكل صورها من الافراط في استخدام القوة العسكرية المدمرة والقاتلة، والتي وصلت إلى مستوى الإبادة، جعل صورة وسلوك إسرائيل غير مشجع للوصول إلى تكامل أمني مع دول عربية، خاصةً وأن حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة المستمرة هي نتائج عمليات الانتخابات.
2. احتمال وجود معارضة مصرية موجهة ضد تشكيل منظومة أمنية نوعية تتفوق على المنظومة المصرية التقليدية، أو مكانة مصر في النظام الإقليمي العربي، بدون أي مجاملة مازالت القاهرة المحور واللاعب الرئيسي في النظام الإقليمي العربي بكل ما تحمله من أبعاد مادية، وثقافية، وجغرافية، وتاريخية. وهذا التحدي ليس جديداً، فقط طرحهُ السفير الإسرائيلي السابق في الأمم المتحدة (غولد) في 1996، والذي ذكر بأن مصر معارضة لمنظومة أمنية شرق أوسطية تفقدها مكانتها كقوة عسكرية وسياسية مهيمنة في العالم العربي، بدلاً من دخول نظام شرق أوسطي ستعتبرهُ القاهرة أداة للهيمنة الإقليمية الإسرائيلية وربما التركية.
3. الأحداث الجارية في غزة ومحاولة التهجير عملت على تكوين تقارب بين القاهرة وطهران وأنقرة، فهذا التقارب يعد مؤشراً على رفض المنظومة الأمنية الشرق أوسطية المقترحة لأنها ستعكس قوة ومصالح إسرائيل ليست البراجماتية بل العقدية الدينية، كما أضحت هناك حاجة ملحة لتوازن إقليمي عسكري يساعد على تحقيق بيئة مستمرة، ثمة تذكير أيضاً بأن طهران مخترقة النظام الإقليمي العربي بالمذهبية الشيعية.
4. وجود معارضة شعبية خليجية، فالدكتور "يوئيل جوزانسكي" أحد أبرز المحللين الإسرائيليين يقول: "بأن هناك إمكانية إلى بروز معارضة من داخل المنظومة الخليجية لإنشاء مثل هذه المنظومة الأمنية، فالكويت ربما تتزعم الموقف المتشدد تجاه الاعتراف والتعاون مع إسرائيل بسبب وجود تيارات سياسية شعبية قوية في الداخل الكويتي تعارض مثل هذا التوجه".
5. السعودية: هذه المنظومة تحتاج إلى التطبيع بين السعودية وإسرائيل، والتطبيع هذا تشترط فيه السعودية قيام دولة فلسطينية، حقيقةً، قبل السابع من أكتوبر، كانت الأوساط المثقفة والأكاديمية الإسرائيلية تسمي التطبيع مع السعودية تاج الاتفاقيات الابراهيمية لأنه ينهي الصراع بأكمله مع العرب.
6. تحتاج أية منظومة أمنية إلى توفر قناعة مشتركة لوحدة الخطر بين الدول المشتركة فيها، وهو الأمر غير متوفر على أرض الواقع.
بعد هذه المقارنة بين النظام الإقليمي العربي ومنظومات الشرق الأوسط، نجد بأن النظام الإقليمي يعتمد على جغرافية واضحة ومحددة ومتصلة ذات هوية مشتركة، وهذا النظام لديه صراعات واختلافات وتنافس على الفعالية بين بعض دولهِ وتفاوت في القوة المادية البشرية والاقتصادية والجغرافية وفي القوة المعنوية، بينما مصطلح الشرق الأوسط معتمد دائماً على مصالح الدول الكبرى والعظمى تحديداً بريطانيا العظمى سابقا والولايات المتحدة مثل منع دخول الشيوعية والحد من الاشتراكية والمد الناصري، كما يعتمد حالياً على مساعي ومسار السلام في الشرق الأوسط المرتكزة على حل القضية الفلسطينية عبر قيام دولة مستقلة، ومع توقف مسار السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين فهذه المنظومة تبدو لن تتحقق مع معطيات الوضع الراهن، خاصةً مع اعلان اتفاقية الدفاع المشترك بين المملكة السعودية وجمهورية باكستان مؤخراً، حيث أدخلت الرياض اللاعب الكبير في النظام الإقليمي العربي إسلام أباد بأمن منطقة الخليج، مقابل دخولها في أمن باكستان، وذلك من منطلق تحقيق توازن القوى في المنطقة، وربما عبر هذه الاتفاقية كتبت الرياض وإسلام أباد نهاية تلك المنظومة الأمنية المشتركة الشرق أوسطية المقترحة قبل ولادتها، فالحدث هذا يحتاج إلى مقالة قادمة تتناول أبعادهُ بشكل أكثر تفصيلاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة