مساء اليوم تُقرع أجراس الكنائس في ست قارات الأرض لتحتفل بالكريسماس أو مولد السيد المسيح، ذاك الحدث الذي جرى قبل نحو ألفي عام وغيّر مجرى التاريخ.
مساء اليوم تقرع أجراس الكنائس في ست قارات الأرض لتحتفل بالكريسماس أو مولد السيد المسيح، ذاك الحدث الذي جرى قبل نحو ألفي عام وغيّر مجرى التاريخ .
كان اليهود ينتظرون مسيحا جبارا مقاتلا ومحاربا، وقادرا على طرد الرومان من بلادهم، مسيحا غليظ الرقبة قاسي القلب، غير أنهم وجدوا بين أيديهم مسيحا آخر دينه الحب وديدنه التسامح والترفع عن الشرور والإساءات، مسيحا لا يصيح ولا يخاصم ولا يرفع صوته في الشوارع، قصبة مرضوضة لا يكسر وكتانا مدخنا لا يطفئ.
في كتابه "رمل وزبد" يلفت الكاتب والأديب، الشاعر والرسام، جبران خليل جبران إلى تضاد واضح وفاضح بين شخصين: الأول يسوع الناصري، الشخصية التي قالت لحوارييها: "احبوا أعداءكم باركوا لأعنيكم، أحسنوا إلى من يسيء إليكم، وصلوا من أجل الذين يضطهدونكم"، فيما الثاني يسميه يسوع الناصري ،، أي تلك الشخصية التي يدعي الكثيرون الإيمان بها والتي تتوافق مع توجهاتهم البراجماتية المعاصرة، وأوهام السيطرة والهيمنة على العالم، ولا تتسق مع مسيح فقير يعلم أصحابه :"من سخرك ميلا فامشي معه ميلين، ومن طلب ثوبك فاعطه رداءك أيضا ".
ولد المسيح مشرقيا، ومن مشرقنا العربي تنطلق دعوة الإمارات للتسامح، علها تدق أجراس الميلاد لتستيقظ القلوب وتصحو العقول على حقيقة طفل بيت لحم المتسامح والمتصالح، لعل الإنسانية تجد طريقا لها ينجيها من الأسوأ الذي لم ياتِ بعد
يحل الكريسماس هذا العام والإمارات العربية المتحدة تدعو للاحتفال بعام التسامح، وللمسيح المولود فقيرا في مزود بيت لحم مع التسامح مسيرة طويلة، حتى وهو في قمة لحظات الألم كان ينادي "اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ".
حقا هو كريسماس برائحة التسامح التي تفوح من دولة عرفت أن الأديان جاءت من أجل كرامة الإنسان، وأن التسامح يقوي العلاقات السلمية ويساعدنا على تقبل الآخرين، لا سيما ونحن في عالم تعصف به رياح التعصب وتؤجج مشاعره شعارات العنصرية والتحامل العرقي، ناهيك عن صعود القوميات والنزوع إلى القبليات، وبينهما تعلو أصوات التطرف الديني، حيث لا محبة ولا تسامح، بل بغض وكراهية، فناء ودمار .
ليلة مولد المسيح أنشد جند الملائكة في السماء: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة"، هذه هي المنظومة التي يفترض للبشرية أن تسير على دربها، أن يكون لله المجد والعزة والكرامة، وأن تمتلئ ربوع البسيطة بالسلام، وأن يحل السلام في قلوب البشر ، وتغيب الحروب .
عشية الكريسماس ينشد الصغار والكبار لحنا ما أروعه .."ليلة الميلاد يمحى البغض ....ليلة الميلاد تزهر الأرض...ليلة الميلاد تبطل الحرب ...ليلة الميلاد ينبت الحب.
لكن ميلادا من غير تسامح حقيقي في القلوب والعقول، هو ميلاد ابوكريفي مغشوش، فلا معنى للميلاد طالما بقيت القلوب قاسية تحب الانتقام وتسعى للثأر ، ولا معنى للميلاد من دون تسامح يولد السلام في العقول .
على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يبدو العالم جائعا للسلام، وقطعا ستغيب هذه القيمة الثمينة طالما اهتمت القوى الكبرى والصغرى بالاستعداد للحرب، وباتت كلمات المسيح المولود في بيت لحم بعيدة عن أعين وأذهان أصحاب القرار ...طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون .
يبقى التسامح أنفع وأرفع مدخل لتحقيق السلام في الأرض، فالتسامح يدعو للعدل والنأي عن الظلم، والعدل هو عماد وأساس السلام الحقيقي، ومن متطلبات العدالة أن ينال الفقراء والمحتاجون حقهم في العون والاهتمام.
حياة السيد المسيح قصة مشوقة من قبل الآخرين، مهما كان شأنهم، تسامحه ملأ الأرجاء، لم يميز بين الأمم وبين اليهود، ولا بين الأغنياء والفقراء، ولا تزال كلمته الشهيرة خالدة عندما جاءوا إليه بامراة أخذت في ذات الفعل، فأخذ يخط على الأرض ، وفي الحق أن الفعل اليوناني للنص يفيد بأنه كان يكتب ضد، بمعنى أنه كان يكتب للمشتكين عليها خطاياهم وآثامهم لكي يخجلوا، وحين رفع ناظريه إليهم قال لهم: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجر"، ولما انصرفوا خاطب المراة :"أين هم الذين يشتكون عليك؟ فأجابته لقد رحلوا، فأشار عليها بقوله امضي ولا تعودي تخطئ .
لم يجئ المسيح ليعلم الناس بناء الأمبراطوريات كقيصر، ولم يمض في طريق تشييد الحصون ككسرى، لم تكن دعوته متصلة ببناء الكاتدرائيات الشاهقة والمعابد الفخمة في جوار الأكواخ الحقيرة والمنازل الباردة المظلمة، بل جاء ليجعل قلب الإنسان هيكلا ونفسه مذبحا وعقله كاهنا .
قمة التسامح نجدها في حديثه مرة أخرى لحوارييه حين حدثهم "إن أحببتم الذين يحبونكم، وكرهتم الذين يكرهونكم فأي فضل لكم، فإن الخطاة والعشارين يفعلون ذلك أيضا".... أي دعوة تلك للتسامي والتسامح والترفع عن روح الانتقام نجدها في حياة وأقوال السيد المسيح .
ذات مرة يسأل بطرس كبير الحواريين معلمه كم مرة أغفر لأخي إن أخطأ إليّ هل إلى سبع مرات؟ ويجئ الجواب حاملا روح تسامح غير محدودة ..." بل إلى سبعين مرة سبع مرات"، أي إذا أساء إليك في الوصايا العشر ومضاعفاتها حتى إلى رقم الكمال فأنت مطالب بأن تسامح .
يقول علماء اللاهوت وملافنة الكنيسة إن التسامح يحتاج إلى قلوب أشرقت فيها نعمة الله حتى تستطيع القفز على الطبيعة البشرية التي جبلت على التضاد المولد لشهوة الذات العليا الرافضة للآخر والمعظمة للذات، وفي هذا السياق يتضح لنا أحد أهم معاني ومباني الجهاد الروحي، ضد الذات وضد الأنانية.
ولد المسيح مشرقيا، ومن مشرقنا العربي تنطلق دعوة الإمارات للتسامح، علها تدق أجراس الميلاد لتستيقظ القلوب وتصحو العقول على حقيقة طفل بيت لحم المتسامح والمتصالح، لعل الإنسانية تجد طريقا لها ينجيها من الأسوأ الذي لم يات بعد .
عسى نجمة الميلاد تشع أنوار التسامح في قلوب البشر الليلة وكل ليلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة