العقل هو العضو الغائب عن المشهد العربي، وإن حضر يحضر على استحياء، ويبقى لفترة وجيزة، ثم ينزوي منسحبا في خجل شديد، المشهد العربي مشهد غرائزي بامتياز
العقل هو العضو الغائب عن المشهد العربي، وإن حضر يحضر على استحياء، ويبقى لفترة وجيزة، ثم ينزوي منسحبا في خجل شديد، المشهد العربي مشهد غرائزي بامتياز، والمقصود بالغرائزي هنا هو تحكم غرائز الإنسان في جميع سلوكياته، وتحكم تلك الغرائز في إدارة الدول والأحزاب والجماعات والمنظمات، فتكون السياسات والمواقف تلبية لغرائز بهيمية؛ كالانتقام والتشفي، والثأر وإفناء الخصوم، والمواقف الحدية التي لا تعرف إلا الأبيض والأسود، والانتقال من الصداقة للعداء، ومن العداء للصداقة بصورة فجائية...الخ.
في عصر بلغ من العقلانية والرشادة مداهما، وبالغ فيهما حتى صارا دينا من دون الدين، العقلانية والرشادة تحكمان العالم في كل شيء، في السياسة والاقتصاد، في الثقافة والمجتمع، في العلاقات الدولية، والسلم والحربة ولكن نحن العرب بعيدون عن ذلك بعد المشرقين، لم نزل نرتع في مرابع عمرو بن كلثوم وننشد معه «بِأَنَّـا المُطْعِمُـوْنَ إِذَا قَدَرْنَــا... وَأَنَّـا المُهْلِكُـوْنَ إِذَا ابْتُلِيْنَــا/ وَأَنَّـا التَـارِكُوْنَ إِذَا سَخِطْنَـا ... وَأَنَّـا الآخِـذُوْنَ إِذَا رَضِيْنَـا/ وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً …وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا» نحن محور الكون ومداره، رغباتنا أقدار، وأمنياتنا أوامر، ولا يعنينا في الكون شيء إلا إشباع غرائزنا بكل أنواعها، بما فيها غرائز التشفي، وإهلاك من نكره إذا قدرنا عليه، وإن لم نقدر عليه تستيقظ غريزة الخضوع والخنوع لحفظ الوجود، والانتقال من النقيض إلى النقيض.
لن يستطيع العبور للمستقبل من لا يستطيع أن يتقبل وجود عدوه، ويتعامل معه، ويتبادل المنافع معه، لن يستطيع العيش فى المستقبل من لا يستطيع العيش مع من يكره، لأن المستقبل لا مكان فيه لمن يريد أن يصنع عالماً على مقاسه
العقلية الغرائزية تتحكم في جميع مناحي حياتنا، من أبسط وحدات المجتمع إلى العلاقات الدولية، والسلم والحرب، مجتمعاتنا أكثر مجتمعات العالم مبالغة في تكاليف الزواج والأفراح، وفيها أعلى معدلات العالم في الطلاق خصوصاً في سنوات الزواج الأولى، خصوماتنا تنقلب دماً وتتحول ثأراً؛ تفنى فيه أعمار أجيال من أبنائنا معاملاتنا الاقتصادية مرتبكة؛ يغلب عليها التدمير المتبادل، لذلك يستحيل أن تجد تحالفا اقتصاديا عربيا ضخما في أي مجال.
فلننظر إلى العراق؛ حيث أكثر ظواهر الفكر الغرائزي وضوحا واستمرارا، أحزاب وكيانات وأجيال لم تشف بعد من التشفي من خصوم، لم ير أحد خصومتهم، ولم يعايش أحد عداوتهم، ولكن كتب الطائفة تقول إن أجداد أجدادهم من أربعة عشر قرنا كانوا خصوما لمن أصبحنا نحبهم اليوم، ولم يكن كذلك أجداد أجدادنا الذين عاصروهم، العراق حالة مثالية للفكر الغرائزي والسياسة الغرائزية، وبناء دولة على أسس وقواعد غرائزية، والتخطيط للمستقبل بمنهجية غرائزية.
أما الحالة السورية ففيها توحشت غرائز الأبعدين المتحكمين في تجار الشام الذين باعوا كل شيء، حالة غريبة يتم فيها تدمير دولة وقتل شعب لإشباع غرائز آخرين في مناطق بعيدة جنوبا وشمالاً وشرقاً، تتحكم غرائز الممولين في أدوات غرائزية تسمي نفسها ثورية أو وطنية من أجل أهداف غرائزية تتعلق بالانتقام والتشفي، وتخليص ثارات قريبة أو بعيدة.
وكذلك الأمر في ليبيا واليمن تتصارع الغرائز الحيوانية، ويغيب العقل والرشد، وتنتهي الأوطان، ويضيع الإنسان لأجيال قادمة، نفس منظومة الغرائز لنفس اللاعبين الدوليين الذين يملكون المال، ويهلكون به الإنسان، انتقاما من خصوم لا يستطيعون مواجهتهم مباشرة، حالة تصيب الإنسان بالموت العقلي، حين يقتنع أن العقل لا دور ولا وجود له أمام توحش الغرائز؛ المبررة باسم الدين تارة، والوطنية تارة أخرى، والقيم العالمية كالحرية والديمقراطية، وحق الشعوب في حكم نفسها تارة ثالثة.
العلاقات العربية- العربية تتحكم فيها العقلية الغرائزية، وتديرها كفاءات ماهرة في إشباع الغرائز البهيمية، إذا أخضعت المواقف والقرارات للبحث والتحليل لن تجد ما يمكن أن تبرره المصلحة الوطنية أو القومية، ولن تجد ما يقبله العقل على أنه قرار رشيد، وسياسة عقلانية تخدم مصلحة هذه الدولة أو تلك، الغالب الأعم مناكفات غرائزية للانتقام والتشفي، أو معاقبة متمرد على عظمة الذات المتضخمة، وفي الجانب الآخر مجاملة صديق أو حبيب، مؤقت بالطبع، في موقف قد يضره أكثر مما يفيده.
العقلية الغرائزية لن تسمح للعرب بالدخول في المستقبل، ستبقيهم خارج التاريخ كما كانوا في القرن الماضي، لأن هذا العصر لا يستطيع العيش فيه من لا يملك من قيم العقلانية والرشادة ما يمكنه من إدراك مصالحه بصورة دقيقة وواقعية، ويستطيع تحقيقها بالتعاون مع الآخرين المخالفين له في كل شيء، بعقلانية ورشادة؛ تحقق له مصالحه دون أن تمس مصالح الآخرين، لن يستطيع العبور للمستقبل من لا يستطيع أن يتقبل وجود عدوه، ويتعامل معه، ويتبادل المنافع معه، لن يستطيع العيش في المستقبل من لا يستطيع العيش مع من يكره، لأن المستقبل لا مكان فيه لمن يريد أن يصنع عالماً على مقاسه، ومقاس جماعته أو طائفته أو مذهبه، هذا ممكن فقط في قصيدة شعر، أو رواية.
نقلا عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة