هل من اعترافات أوروبية رسمية بفضل الحضارة الإسلامية على العالم لاسيما في سياق خدمتها للبشرية دون تفرقة لجنس أو لون أو دين؟
ضمن أهم الإشكاليات الحديثة التي لا تزال تواجه الإنسانية منذ بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، يأتي الحديث عن قضية الحضارات الإنسانية، وما إن كانت هي حضارة واحدة، أم حضارات متباينة، بل لقد ذهب البعض إلى حد أبعد من ذلك عندما تحدثوا عن حتمية المواجهة والصراع بين الحضارات، وليس عن إمكانيات التلاقي بين الإنسانية ،عبر موجات التفاعلات البشرية التي عرفت باسم الحضارات.
الخلاصة هنا أن العالم الغربي يدين بوجود الثقافة العربية، وأن الطريقة العلمية الحديثة قدمها الإسلام للغرب، وأنه ليس هناك أدنى شك في أن روح البحث العلمي الجديد وطريقة الملاحظة والتجربة التي أخذت بها أوروبا، إنما جاءت في اتصال طلاب الغرب الأوروبي بالعالم الإسلامي.
ولعله من سوء الطالع أن سكان الأرض المعاصرين قد قدر لهم أن يعيشوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، تلك التي أذكت "وهم" صدام الحضارات، لاسيما بين طرفين أساسيين حول الكرة الأرضية، العالم الغربي، والعالم العربي، والعالم المسيحي اليهودي، في مواجهة الإسلامي الكونفوشيوسي، بحسب توصيف وتصنيف "صموئيل هنتنجتون".
وقد كان هذا الانطباع خاطئا، فأسامة بن لادن لم يكن ليمثل العالم العربي ولا الإسلامي، وبطريقة مماثلة لم يمثل جورج بوش الاتجاه الغربي السائد، وكان الأمر في حقيقته ليس أكثر من مجموعتين محددتين جداً من العوامل هما اللتان تتصادمان، وليس هو صدام الحضارات التي ننتمي إليها.
لكن حصر الوعاء الإنساني الحضاري في طرفي نقيض كما فعل هنتنجتون، هو أمر لا يستقيم؛ فهناك عشرات الحضارات التي سادت ثم بادت، ومنها ما هو كائن في الحال، وعرضه للانهيار في المستقبل، وبينها كذلك ما هو خارج دائرة تنويعات هنتنجتون القريبة من العنصرية.
الشاهد أنه لا يستقيم الحديث عن دور الحضارات في خدمة المسيرة الإنسانية دون التوقف طويلاً وملياً مع الحضارة الإسلامية التي ظلت أرقى حضارة إنسانية لفترة تزيد عن عشرة قرون، كما ذكر "وول ديورانت" صاحب موسوعة قصة الحضارة، والمفكر الفرنسي الكبير "جوستاف لبون"، صاحب كتاب "حضارة العرب".
يتساءل الباحث المحقق والمدقق في قصص الإنسانية وأحاجي الكون: "ما الذي قدمته الحضارة الإسلامية إلى البشرية حتى تحتل مثل هذه المكانة الكبيرة في رحلة التطور البشري، وبشهادة شهود عدول من غير الأجناس العربية ومن غير الذين يعتنقون الإسلام ديناً ومذهباً؟!
يمكن القطع بأن الحضارة الإسلامية خدمت الحضارة الإنسانية في رحلة تطورها من جانبين:
• الجانب الأول: أنها قدمت لها خلاصة الحضارات القديمة بأسلوب ملائم للعصر، مقرون بالشرح والتوضيح، وكذلك بالنقد والتجريح عندما يقتضي الأمر ذلك. فوجدت أوروبا بين يديها علوما ومعارف كانت قد عجزت عن استيعابها، وكادت الخيوط تنقطع معها، وحتى ولو كانت محفوظة في الكتب.
• الجانب الثاني: أنها لم تقف عند هذه المرحلة بل قامت بعمل عظيم غيّر مجرى الحضارات الإنسانية، وهو أنها وصلت معرفياً وكيفياً، ما كاد يذهب وينقطع معه التواصل، وذلك عندما قامت بحركة إبداع شملت كل المعارف والعلوم، وجمعت بين التطور الكمي والكيفي، وقدمت نظريات ومدارس فكرية وعملية، ومؤلفات تتلمذت عليها أوروبا ولعدة قرون.
ولعله بين يدي هذا المقام يعن لنا كذلك التساؤل: "هل كانت الحضارة العربية والإسلامية، حضارة تنفيذية فقط، وحضارة كلام إنشائي وأحاديث طنانة رنانة، أم حضارة معرفة وعلوم وضعية وتطبيقية لم يعرفها الغرب إلا حديثاً؟
تخبرنا صفحات التاريخ بأنه في المساجد الكبرى وفي الحواضر الإسلامية كانت علوم الفيزياء والكيمياء والطب والفلك تدرس جنبا إلى جنب مع علوم الشريعة واللغة العربية. بل كان أمراً جديداً على المستوى الإنساني أن يحضر عدد كبير من علماء الشريعة، وعلماء في علوم تطبيقية أخرى في الوقت نفسه دون التفوق أو التعصب لعلم على علم، فكل العلوم الصحيحة تخدم الدين والدنيا معاً، إذا كانت وسائلها شريفة وأهدافها نافعة كريمة.
لم تكن علوم المسلمين التي ازدهرت في القرون الثلاثة (بين القرن التاسع والعاشر والحادي عشر) قسراً في منافعها عليهم، بل أسهمت إنجازاتهم العلمية في ظهور عصر النهضة في أوروبا. ولذلك يذهب عدد كبير من علماء الغرب إلى التوضيح أنه لولا أعمال العلماء المسلمين الرائعة لاضطر علماء النهضة الأوروبية البدء من حيث بدأ هؤلاء العلماء المسلمون، ولتأخر سر المدنية العالمية لعدة قرون.
ما الذي جاءت به الحضارة الإسلامية واعتُبر فضلا منها على البشرية؟ الثابت أن المسلمين جاءوا بمبدأ جديد في البحث يتفرع من الدين نفسه. وهو مبدأ التأمل والبحث والذي اتخذه المسلمون كمسار للبداية ثم مالوا بالعمل في علوم الطبيعة وبرعوا فيها، وهم الذين برعوا في علوم الكيمياء والطب والصيدلة، والهندسة والجبر، والفلك.
في هذا الصدد يحدثنا المستشرق الفرنسي الكبير "هنري لاوست"، في كتابه الثقافة الإسلامية: "إن وحدة الثقافة الإسلامية تقوم على أساس وحدة العقائد الإسلامية، وما كان الانقسام عند المسلمين إلا في الفروع، ومهما يكن من تأثير العنصر الديني في الثقافة الإسلامية، فإن الإسلام ليس فيه ما يمنع البحث العلمي، ولقد كانت اللغة العربية من أهم دواعي وحدة الثقافة بين المسلمين، ومن أهم أسباب تفوق هذه اللغة هي أنها لغة القرآن الكريم الذي يجتمع المسلمون عليه".
هل من اعترافات أوروبية رسمية بفضل الحضارة الإسلامية على العالم لاسيما في سياق خدمتها للبشرية دون تفرقة لجنس أو لون أو دين؟
يعترف الكاتب والأديب الفرنسي "روبير بريو" بفضل العالم الإسلامي قائلا: "كانت أوروبا في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر تتجه إلى العرب باحثة عما استجد عندهم من صناعات ومن فنون، وكانت السبب في تطورها وتقدمها، وكانت أوروبا تتجه إليهم باحثة عن كشوفهم في علوم الرياضة والفلك والطب والكيمياء، لقد دعيت أوروبا فجأة إلى الحياة بعد أن ظلت غارقة في ظلمات الجهل قروناً، ذلك لأن الروح العلمية التي كانت سائدة في مدارس بغداد كان همها استخراج المجهول من العلوم والتدقيق في الحوادث تدقيقاً مؤدياً إلى استنباط العلل من المعلومات، وعدم التسليم بما يثبت بغير التجربة، وهذه ميادين قال بها أساتذة وعلماء من المسلمين في القرن التاسع من الميلاد.
والخلاصة هنا أن العالم الغربي يدين بوجود الثقافة العربية، وأن الطريقة العلمية الحديثة قدمها الإسلام للغرب، وأنه ليس هناك أدنى شك في أن روح البحث العلمي الجديد وطريقة الملاحظة والتجربة التي أخذت بها أوروبا، إنما جاءت في اتصال طلاب الغرب الأوروبي بالعالم الإسلامي.
والسؤال هنا: لماذا إعادة البحث في أوراق التاريخ هذه مرة أخرى؟
والجواب ربما يكون في أضابير التاريخ دروس وعبر للجماعات اليمينية الأصولية، والتي لا ترى في الإسلام والمسلمين إلا المرادف للإرهاب والإرهابيين، وهنا وجب التأكيد على أنه لابد من قطع الطريق على دعاة الفتنة على الفور.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة