هل هناك علاقة بين التغير المناخي وملوحة التربة في مصر؟
تعاني بعض المناطق في مصر من ملوحة التربة، ما يؤثر على الإنتاجية الزراعية، ويهدد سلامة التربة.
«ملوحة التربة» (Soil Salinity)، تُعبر عن كمية الأملاح الذائبة في محلول التربة، وتتسبب الزيادة في نسبة هذه الأملاح في نشأة ما يُسمى بـ «الإجهاد الملحي»، نتيجة تراكم كميات كبيرة من الأملاح في التربة.
حسنًا، هذه قصتنا اليوم، إذ تُشير العديد من الدراسات إلى أنّ تربة مصر قد تأثرت بالملوحة، خاصة في منطقة دلتا النيل، ما يؤثر بصورة سلبية على الإنتاجية الزراعية، والأمر لا يقف عند مصر؛ فقد أوضح بيان صادر عن الأمم المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2021 إلى أنّ ملوحة التربة تهدد ما يزيد عن 833 مليون هكتار من التربة حول العالم، وهو ما يُعادل 8.7% من تربة الكوكب، وتُشكل تحديًا لنحو 1.5 مليار إنسان حول العالم.
في مصر
في عام 2018، نشر الدكتور "عمرو همام"، دراسة في دورية «ذا إيجيبشن جورنال أوف ريموت سينسنج آند سبيس ساينس» (The Egyptian Journal of Remote Sensing and Space Science)، تضمنت خرائط للأماكن المصابة بملوحة التربة في دلتا النيل، واستخدموا فيها "مؤشر الفرق المعياري للغطاء النباتي" (NDVI)؛ للتعرف على العلاقة بين كثافة الغطاء النباتي ومدى ملوحة التربة، وأوضحت الخرائط أنّ درجة الملوحة تزداد بالاقتراب من الشمال (نحو البحر المتوسط)، وخلصوا إلى النتائج التالية:
وهذا يعني أنّ 40% من منطقة دلتا النيل متأثرة بشكل ما بملوحة التربة وقت نشر الدراسة في عام 2018. وتتعدد أسباب ملوحة التربة في مصر عمومًا، من ضمنها: الاستخدام المفرط للأسمدة وارتفاع مستوى سطح البحر نتيجة التغير المناخي، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تقع مصر. لكن على طاولتنا اليوم ملوحة التربة نتيجة التغير المناخي.
الجليد والتربة السوداء: علاقة غير مباشرة
في عام 2007، صدر تقرير عن «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي التابعة للأمم المتحدة» (IPCC)، يشير إلى أنّ منطقة دلتا النيل من أكثر البقاع الساخنة المعرضة بشدة لآثار ارتفاع مستوى سطح البحر، نتيجة التغير المناخي. وهذا أمر متوقع لدولة تقع على ساحل بحرين: المتوسط من الشمال والأحمر من الشرق. في نفس الوقت، إنه مؤشر خطير؛ فمنذ عام 1880، ارتفع مستوى سطح البحر لـ20.32 سم. ومن المتوقع أن يرتفع مرة أخرى بين (30 سم إلى 1.2 م) بحلول عام 2100.
من مصر، نتجه نحو شمال المحيط الأطلسي، حيث تستقر جزيرة «جرينلاند» (Greenland) الضخمة التي تبلغ مساحتها نحو 2.166 مليون كيلومتر مربع، عند سماع اسمها للوهلة الأولى تظن أنها جنة خضراء، تترقرق فيها المياه الصافية، وفي الخلفية تغرد الطيور سعيدة بأغانيها، لكن الواقع الذي يفرضه موقع تلك الجزيرة مختلف تمامًا؛ فهي واحدة من أبرد المناطق على الأرض، وعادةً ما يكون متوسط درجات الحرارة هناك تحت الصفر المئوي، وهذا يعني أنها محتفظة بكتل كبيرة جدًا من الجليد. وفي ظل التغيرات المناخية التي تمر بها الأرض، يتعرض هذا الجليد للذوبان.
وكشفت دراسة منشورة في دورية «نيتشر» (Nature) في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 عن نموذج استخدمت فيه مجموعة بحثية من دول متعددة منها: الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والدنمارك، «نظام الملاحة العالمي عبر الأقمار الصناعية» (GNSS)، وخلصوا إلى أنّ ذوبان الجليد في جرينلاند سيُساهم وحده في ارتفاع مستوى سطح البحر ما بين (13.5 - 15.5) ملم، بحلول عام 2100.
من الشمال، نتجه نحو الجنوب، عند القارة القطبية الجنوبية (Antarctica)، التي تضم 90% من الجليد الموجود على سطح الأرض، هناك حيث صفيحة القارة القطبية الجنوبية في شرق القارة (EAIS)، وتضم 98% من جليد القارة. توصلت مجموعة بحثية في جامعة درم بالمملكة المتحدة إلى أنه إذا ظلت انبعاثات الغازات الدفيئة ظلت كما هي، من المتوقع أنّ يتسبب ذوبان الصفيحة الجليدية في رفع مستوى سطح البحر نحو 50 سم، بحلول عام 2100، ونُشرت الدراسة في دورية «نيتشر» (Nature) في أغسطس/آب 2022.
- استغاثة من باكستان بسبب التغيرات المناخية: لماذا أنا؟
- أنماط زراعة مستقبلية لمواجهة التغير المناخي.. حتمية حماية الغذاء
عودة إلى مصر
تتسرب مياه البحر الأبيض المتوسط إلى المياه الجوفية، ما يؤثر على درجة ملوحتها ويترتب على ذلك أحداث كثيرة، الأمر الذي شغل الدكتور «أحمد البارودي»، أستاذ في قسم الأراضي والمياه في كلية الزراعة جامعة طنطا، الذي قال لـ"العين الإخبارية" عبر الهاتف: "مع ارتفاع درجات الحرارة، حصل ارتفاع في مستوى سطح البحر الأبيض المتوسط في شمال الدلتا، ما تسبب في رفع مستوى المياه الجوفية". هناك ما يُسمى بـ«الخاصية الشعرية»، وهي التي تتسبب في رفع مستوى الماء من الأسفل إلى الأعلى: "بعدما ترتفع المياه -بما فيها من أملاح- بالخاصية الشعرية، تتبخر المياه، تاركة ورائها الأملاح عند الجذور؛ فتزداد ملوحة التربة" يشرح البارودي.
ويُضيف الدكتور "ياسين السوداني"، أستاذ البيئة النباتية في كلية العلوم جامعة كفر الشيخ لـ"العين الإخبارية" عبر الواتس آب: "تتأثر المناطق الساحلية القريبة من البحر بصورة خاصة؛ فمع أي هبوب للرياح، يزداد رذاذ البحر، الذي يُلقي بالمياه المالحة على التربة القريبة، ما يؤثر على نسبة الملوحة فيها".
ربما يكون ارتفاع مستوى سطح البحر أحد الأسباب في زيادة درجة ملوحة التربة في شمال دلتا النيل، لكن هذا ليس السبب الوحيد؛ فهناك العديد من العادات غير الحميدة، مثل قطع الأشجار واستخدام الأسمدة الكيميائية بشكل مبالغ فيه، وغيرهم. وهذا ما أكده السوداني، أنه لا يمكننا الجزم أنّ التغير المناخي هو السبب الوحيد لملوحة التربة؛ لأنّ هناك عوامل أخرى كثيرة.
كيف تتأثر التربة بالملوحة؟
يُوضح السوداني أنّ الأرض تحتاج إلى نسبة محددة من الملوحة؛ حتى تنتج جيدًا، وكلما زادت نسبة الملوحة تتأثر النباتات بالخاصية الأسموزية، وهي تعني انتقال المياه من الوسط الأقل تركيزًا إلى الوسط الأعلى تركيزًا، وبما أنّ تركيز الأملاح في التربة أعلى من النبات، تنتقل المياه من النبات إلى التربة؛ فتذبل النباتات وتموت.
وبالطبع تقل قدرة النباتات على امتصاص المياه من التربة، ويشرح البارودي لـ"العين الإخبارية": "يحصل تدهور كيميائي للتربة؛ يتضمن ارتفاع درجة ملوحة التربة، وتغيرات في درجة الحمضية (pH)، وارتفاع نسبة الصوديوم، وبالتالي تلوث التربة". ويتابع: "يتحمل النبات نسبة معينة من الملوحة، إذا زادت عن حد معين، تقل إنتاجية المحصول، مثلًا، إذا كان الفدان الواحد يُنتج 10 طن من المحصول، تقل الإنتاجية في العام التالي إلى 8 طن، وتدريجيًا تقل مرة أخرى في العام الثالث إلى 5 طن، وهكذا. بالإضافة إلى أنّ الجودة تقل".
يتفق الدكتور «كمال شلتوت»، أستاذ البيئة النباتية في كلية العلوم، جامعة طنطا مع البارودي، ويُضيف أنّ تركيبة المحاصيل الزراعية ستتغير، ويؤكد على أنّ ملوحة التربة تؤثر على الأمن الغذائي.
ويتفق السوداني معهما، ويُضيف: "تعيش أغلب النباتات في وسط متعادل، ليس حامضي ولا قاعدي، نسبة الملوحة محددة، وأي تغيّر في نسبة الملوحة، يُحدث خللًا في العمليات الفسيولوجية داخل النباتات. وهذا يؤثر بلا شك على الإنتاجية في النبات".
من جانب آخر، يقول الدكتور «كمال شلتوت» في حواره مع "العين الإخبارية": "تتعرض كل مناطق مصر للملوحة، لكن بشيء من التدريج، على سبيل المثال، المناطق التي تزداد فيها الرطوبة، يرتفع فيها معدل البخر؛ فيتركز الملح، أما إذا كان معدل البخر منخفضًا في منطقة ما، لا يتركز الملح".
داخل النباتات
يشرح الدكتور «خليل محفوظ»، أستاذ فسيولوجيا النباتات في كلية العلوم جامعة طنطا، ما يحصل داخل النباتات أثناء فترات الملوحة، قائلًا في حواره مع "العين الإخبارية": "هناك بعض الأملاح النافعة، مثل: أملاح الماغنيسيوم والبوتاسيوم، لكن المشكلة مع أملاح الصوديوم؛ فالصوديوم معدن غير مفيد للنباتات، وعندما تزداد كميته، يُصبح ضارًا"؛ فقد تتسبب زيادة كمية الصوديوم في هدم قوام التربة: "وتصبح التربة بلا مسام، ومضغوطة وناعمة جدًا، تشبه الدقيق؛ وبالتالي لا تكون هناك تهوية أو فرصة لتهوية النباتات أو لتنشط الكائنات الدقيقة المفيدة، وفي المقابل، تنشط كائنات أخرى مختلفة، وهي الكائنات اللا هوائية التي تمنع نمو النباتات، وإذا نمت النباتات، تدمر الكائنات اللاهوائية الجذور"، يشرح محفوظ.
وتتأثر الكائنات الدقيقة أيضًا
تلعب الكائنات الدقيقة دورًا حيويًا في تحويل المواد العضوية إلى مواد غذائية، تُفيد النبات، كما تعمل على تهوية التربة، وجعلها بصحة جيدة. لكن مع الأسف، تواجه تلك الكائنات المفيدة ما يُسمى بالضغط الأسموزي وانتشار الأيونات السامة، ما يؤثر على نشاطها، وتحاول مواجهة هذا الضغط عبر إنتاج مواد عضوية تُسمى "الأسمولات". كما تتأثر كائنات أخرى كثيرة مثل دودة الأرض، التي تعمل على تهوية وتعزيز خصوبة التربة، بحسب السوداني.
هل من حلول؟
يقترح البارودي إنشاء مصارف في المناطق التي تعاني من ملوحة التربة؛ فلا ترتفع المياه إلى منطقة الجذور، إضافة إلى التحسينات الوراثية عبر البحث عن الأنواع التي تتحمل الملوحة ودرجة حرارة الهواء. ومن جانبه، يرى السوداني أنّ إعادة تأهيل الأرض لتصبح صالحة للزراعة أمر مهم، وذلك عبر ري الأرض ثم صرف المياه، ثم ريها ثم صرفها، وهكذا حتى تقل درجة ملوحة التربة في عملية أشبه بـ«الغسل». ويشدد على عدم استخدام بعض المواد الكيميائية التي يستخدمها بعض الفلاحين لتقليل الملوحة؛ فهي من جانب تقلل نسبة بعض العناصر المسببة للملوحة مثل الصوديوم والكلور، ومن جانب آخر تزيد نسبة بعض المواد الكيميائية التي لا تحتاجها التربة، وقد تعود عليها بالضرر.
aXA6IDE4LjIyNi4yMjIuNzYg
جزيرة ام اند امز