من يطرحون هذه الرؤية هم الذين درسوا مسار الأزمات التي طرأت على العالم من قبل، سواء كانت أزمات اقتصادية نتج عنها تغيرات سياسية أو العكس
اتفقنا أن زمن كورونا هو زمن التفكير أكثر من زمن الفاعلين في السياسة، وبالتالي جزء من تداعيات التفكير في كورونا هو تجاوز الزمن إلى ما بعد كورونا أي القراءة في نتائج التأثير.
كورونا باعتبارة أزمة فإن تعريف الأزمة هو حدث طارئ على مسار ثابت ينتج عنه تغير كل شيء، حيث يصبح فعل الأزمة كفعل السكين حين يقطع شيئا، فيصبح الشيء الواحد جزأين متعارف على تسميتهما؛ ما قبل الأزمة وما بعد الأزمة.
وبالتالي تبعا لهذا التعريف حتما سيكون زمن ما بعد كورونا لا يشبه ما قبله.
لكن هذا الاختلاف أو التغير يحتاج الكثير من التفكير، والمزيد أيضا من طرح الأسئلة حول عملية التغير؛ أولها من الذي سيقع عليه التأثير أكثر من غيره؟ وكيف ستكون طبيعة هذا التأثير؟ وأي شق سيطغى على الآخر؟ السياسي أم الاقتصادي أم الاجتماعي؟
هل ستنتهي "كورونا" بإحداث شرخ في ولاءات المواطن الغربي والأمريكي تجعله يميل إلى تيارات متطرفة حالية تتشابه مع ميلها السابق بعد أزمة الكساد الكبير إلى النازية الألمانية والفاشية الإيطالية؟
الذين يطرحون هذه الرؤية هم الذين درسوا مسار الأزمات التي طرأت على العالم من قبل، سواء كانت أزمات اقتصادية نتج عنها تغيرات سياسية أو العكس.
هنا يستحضرون تاريخ 1929 المتعارف عليه بالكساد العظيم الذي ضرب العالم الأوروبي وأمريكا والعالم كله، واستمر طوال عقد الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، نتج عنه صعود تيارات سياسية في ألمانيا وفي إيطاليا، انتهى هذا الصعود إلى دخول الحرب العالمية الثانية 1945 التي دمرت أوروبا وقسمتها أنصافا متعددة.
صعود النازيين في ألمانيا "أدولف هتلر 1933" بعد أن فشلت حكومة "فيمار" في إدارة الأزمة الاقتصادية، وهكذا أيضا صعود موسيليني إلى سدة حكم إيطاليا وتأسيس التيار الفاشي أوروبيا.
وتبعا لهذا القياس، البعض ينحو هذا المنحى في قراءة تداعيات "كورونا" باعتبارها تتشابه في تأثيراتها مع الكساد العظيم 1929 والكل يتوقع ذلك، بما ستحدثه من آثار اقتصادية عالمية بدأت آثارها تتضح في زيادة نسبة البطالة في أمريكا وزيادة نسبة طالبي معونة البطالة إلى ما يربو على ستة وعشرين مليون عاطل.
وهكذا في أوروبا كلها.
فهل ستنتهي "كورونا" بإحداث شرخ في ولاءات المواطن الغربي والأمريكي تجعله يميل إلى تيارات متطرفة حالية تتشابه مع ميلها السابق بعد أزمة الكساد الكبير إلى النازية الألمانية والفاشية الإيطالية؟
هنا يظهر تيار أوروبي مهم يستحق تسليط الضوء عليه وعلى المدى الذي سيستفيد منه بعد أزمة كورونا؛ وهو التيار الشعبوي الأوروبي بيمينه ويساره.
والشعبوية يمكن أن تكون أيديولوجية تعتمد الخطاب العاطفي السطحي لتأجيج المشاعر دون الغوص في تقديم أفكار حقيقية، وهي تيار قديم يعود منذ الرومان وصولا إلى الأحزاب الموجودة الآن.
ولعلنا هنا نذكر حكم هوجو شافيز في فنزويلا وما أطلق عليه الرئاسة الاجتماعية معلنا شعار محاربة الطبقة الفاسدة، أو نموذج الرئيس عبدالله بوكرم 96 – 97 في الإكوادور الذي دعا إلى تشكيل حكومة من الفقراء، أو الخطاب الشعبوي العربي في الستينيات كما يطرحه الرئيس عبدالناصر خصوصا ما كان يتعلق بإسرائيل ورميها في البحر.
الشعبوية السياسية الحزبية في أوروبا أخذت منحى مهما وبارزا منذ أن أسس "حزب الحرية النمساوي في خمسينيات القرن الماضي".
هذا الحزب عام 1994 حصل على خمسة أصوات فقط ربما أصوات مؤسسيه، ثم وصل مؤخرا إلى أن يكون جزءا من الحكومة.
الأحزاب اليمينية الشعبوية حصلت عام 1998 على 7 في المائة من الأصوات في البرلمان الأوروبي وفي 2011 حصلت نفس الأحزاب على 25 في المائة.
إذن هناك صعود ملحوظ جدا لهذه الأحزاب، وهذا الصعود لا يقاس بعدد المقاعد داخل البرلمان الأوروبي، وإنما بمدى تأييد الشعوب الأوروبية لما يطرحه الشعبويون اليمينيون أو اليساريون.
منذ انتخابات البرلمان الأوروبي 1979 حتى انتخابات مايو/أيار من العام المنقضي تعكس تنامي هذا التيار واستفادته من الأزمات والمطبات التي تحدث.
اختيار 751 عضوا لبرلمان من بين 512 مليون مواطن أوروبي من 28 دولة كان بمثابة عينة حقيقية لقياس توجه الناخب وميوله.
ما الذي حدث في انتخابات العام الماضي؟ تراجع أحزاب الوسط وصعود الأحزاب الشعبوية واليمينية.
تراجعت نسبة أصوات الاشتراكيين والديمقراطيين.
هذا ما دفع ماتيو سالفيني زعيم حزب الرابطة أحد الأحزاب الشعبوية المتشددة التي حققت فوزا كبيرا يقول إن حزبنا هو الأول في إيطاليا وحزب ماري لوبان الأول في فرنسا وحزب نايجل فاراج الأول في بريطانيا.
إذن إيطاليا وفرنسا وبريطانيا ستغير أوروبا.
ولكن في أي اتجاه يقصد سالفيني ستتغير أوروبا؟
سالفيني وغيره من تلك الأحزاب التي ذكرها لديهم انتقادات على الاتحاد الأوروبي، وعلى منطقة اليورو، وعلى العولمة والنظام الليبرالي الأمريكي.
من هنا في اعتقادي سيأتي التغيير في أوروبا.
التغير يتعلق بمدى بقاء الاتحاد الأوروبي وببقاء اليورو وببقاء أمريكا على سدة قيادة العالم.
التيار الشعبوي الأوروبي استفاد من عدة أزمات سابقة استفادة كبيرة وسيستفيد من أزمة كورونا أيضا.
استفاد من الأزمة الاقتصادية 2008 بشكل كبير، فالاتحاد الأوروبي بدا عاجزا أمام مساعدة إيطاليا مثلا، وغير قادر على تحقيق أمان وظيفي واقتصادي للمواطن الأوروبي.
في نفس الوقت، استفاد من أزمة 2015 المتمثلة في تدفق موجة المهاجرين من الشرق الأوسط المتضرر إلى أوروبا وبالتالي رفعت شعارات محاربة اللاجئين وورطت جميع الأحزاب في تبني سياسة حاسمة ضد اللجوء.
وبالتالي المتوقع أن تلك الأحزاب التي أصبحت لديها أرضية كبيرة متمثلة في شريحة جماهيرية أنها ستواصل رفع شعار الداخل أولى، وأن الانكفاء على إصلاح الحالة الداخلية سيكون قبل الاندماج والانفتاح مع أي كيان أوروبي حتى لو كان الاتحاد الأوروبي.
هنا قد تتوالى الخروجات من الاتحاد الأوروبي خصوصا من قبل إيطاليا التي أعلنت ذلك بحرق علم الاتحاد الأوروبي، وقد تنفتح إيطاليا ناحية الصين التي تعتبر أكبر الداعمين لإيطاليا في أزمة كورونا.
في الوقت نفسه، فإن سياسة الانكفاء على الذات تذكرنا بما فعله هتلر في إدارة ألمانيا بعد أزمة الكساد الكبير، حين ركز على صناعة التسلح وانتهى به الأمر من الانسحاب من عصبة الأمم وانهيار عصبة الأمم.
وبعدها تأسست الأمم المتحدة عام 1945.
إذن قد تكون أزمة كورونا مقدمة قوية جدا لانهيار منظمة الأمم المتحدة التي ولدت وتأسست بعد حرب كبيرة هي الحرب العالمية الثانية.
أو قد يعاد تغيير ميثاق تأسيسها وبنيتها العضوية، قد يلغى أو تتغير فكرة الخمسة الكبار في الأمم المتحدة.
لكن الأكيد أن أولويات الإنفاق في الدول الأوروبية ستتغير من الإنفاق في التسليح وغيرها إلى الإنفاق في الأنظمة الصحية والخدمية.
سيكون الإنسان محور أي برنامج سياسي، وقد يتغير شكل الدولة الأوروبية القديمة إلى دولة الخدمات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة