الجائحة، التي أصابت البشرية دون تمييز بين البشر على أي أساس ديني أو هوياتي، دفعت إلى نقاش واسع حول علاقة الإيمان بالعلم كذلك.
أثار الانتشار الواسع لوباء كورونا في أركان العالم الأربع، أسئلة كثيرة حول نظريات طالما ترددت في أوساط العلم حتى كادت ترسخ رسوخ الحقائق.
فقد دفع عجز تلك الأوساط عن توقع انفجار الوباء قبل انتشاره، وعلاجه بعد الانتشار، إلى مراجعة كثير من الدعاوى "العلموية" (Scientism) السائدة حول قرب حقبة القضاء النهائي على المرض في تاريخ الإنسان؛ وأنه لم يعد بينه وبين حل لغز أصل الحياة والموت سوى خطوات قليلة، تُقطع في علوم الوراثة وأبحاث الدماغ؛ وغيرها من المقولات المتوهجة بزهو أطفأ الوباء كثيرا منه.
لقد مثلت جائحة كورونا صدمة قوية دفعت إلى بعض التواضع في دعاوى المقدرة الكاملة على توقع مستقبل المرض، والتحكم في مصير الإنسان والكون، مما يفتح آفاقا لمصالحة مستقبلية ممكنة بين الرؤية المادية التقنية والرؤية الإنسانية الإيمانية في المجتمع العلمي.
غير أن الجائحة، التي أصابت البشرية دون تمييز بين البشر على أي أساس ديني أو هوياتي، دفعت إلى نقاش واسع حول علاقة الإيمان بالعلم كذلك؛ حيث لم يثر انتشار الوباء من الجدال والخلاف حول قضية، ما أثاره حول علاقة مبدأ التوكل على الله، وهو مفهوم ومبدأ إيماني، بالسلوك الواجب على المؤمن زمن الأوبئة، خاصة في التزامه بالإجراءات الوقائية ومداه، واتخاذه الأسباب الطبية.
مسؤولية العلماء في عالم المسلمين اليوم تقتضي ولا شك، تجديد منهج تمَثُّل الإيمان في قلوب الناس، وبالتالي تأثيره في سلوكهم الخاص والعام.
لقد أعيد استحضار الحديثين الشريفين "لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ. ولا عَدْوَى..." (صحيح البخاري) ومنهج الجمع المستوعب لفهم معنييهما؛ وتكرر الاستشهاد بمقولة عمر بن الخطاب "نفر من قدر الله إلى قدر الله “في نقاشه الشهير مع أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما حول ما ينبغي للمؤمنين في مواجهة طاعون عمواس. وتم التذكير بإجراءات الحجر الصحي في الجبال التي بدأها في زمن الإسلام عمرو بن العاص، وأورِد كلام أحد رواد علم الأوبئة في الحضارة الإسلامية وهو ابن الخطيب الغرناطي عن فوائد الحجر الصحي في رسالته "مُقنِعة السائل عن المرض الهائل" حين رصد آثاره الإيجابية على ألوف السجناء في إشبيلية ممن لم يصبهم الطاعون؛ وغيرها من الشواهد التاريخية والأمثلة الدالة على أن التوحيد الخالص لا ينافي الأخذ بمعطيات العلم، وأن تمام التوكل على الله هو استفراغ الوسع في الأخذ بالأسباب المادية، قبل الإنابة والدعاء.
صحيح أن تلك الأدلة من تراثنا، لها أهميتها في استعادة ثوابت الإيمان في مواجهة محنة كورونا؛ لكن مسؤولية العلماء في عالم المسلمين اليوم تقتضي ولا شك، تجديد منهج تمَثُّل الإيمان في قلوب الناس، وبالتالي تأثيره في سلوكهم الخاص والعام؛ على ضوء ما يعيشونه في واقعهم. وهذه مهمة تحتاج إلى جهد في النظر يتجاوز تكرار الأجوبة المتاحة في تراثنا -على أهميتها الكبرى في سياقها-؛ وإلى فكر مركب يتدبر نصوص الوحي، ويستحضر مقاصد الدين، في تفاعله مع ما يستجد في حياة الناس من نوازل ماثلة للعيان، شأن هذا الابتلاء، بآثاره العديدة والمركبة.
إن أسئلة الإيمان في علاقته بالعلم والعمل تقترن اليوم بعودة عالمية إلى الدين، استمدادا لقيمه الروحية ولمعانيه الهادية إلى حياة الناس، وهو ما يؤكد أهمية الإيمان ومسؤولية العلم معا؛ ويطوق العلماء بمسؤولية كبرى في واقعهم، بالنظر إلى مكانتهم المعنوية والرمزية، وهي مكانة أكدتها مرحلة كورونا، حيث تبوأ العلماء باختلاف تخصصاتهم صدارة المشهد الذي تربع عليها غيرهم سابقا بغير أهلية ولاستحقاق. ولذلك لم يكن مستغربا أن يطلق الأمين العام للأمم المتحدة يوم 11 أبريل 2020 نداء خاصا لقادة الأديان للانضمام لجهود العمل على إحلال السلام، والتركيز على المعركة العالمية المشتركة في مواجهة فيروس كورونا المستجد COVID-19، إدراكا منه لدورهم هذا.
أما إذا أردنا أمثلة من التاريخ -مرة أخرى-لنماذج من العلماء الذين كانوا في مستوى تحدي عصرهم، خاصة في زمن المحن والأوبئة؛ فيكفي أن نذكر-من بين أسماء لا تحصى عددا-، واحدا كالمؤرخ تقي الدين المقريزي. فقد عاش الرجل وباء عام 806 ه بمصر، بل فقد فيه ابنته الوحيدة. لكن استجابَته لتحدي مرحلتِه كان تأليفُه كتابا رائدا في دراسة الآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية للأوبئة، هو كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة"؛ أو ابن خلدون الذي يحدثنا عن عالم جديد يولد من رحم الكوارث... ولهذا حديث آخر، نستكمله الأسبوعَ القادم إن شاء الله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة