من الضروري أن نستعد فعليا للتعامل مع الجانب الإسرائيلي، وهو ما يتطلب دراسة الشخصية الإسرائيلية في الوقت الراهن.
لا زالت ردود الفعل العربية تثير إشكالية القبول العربي بإسرائيل في الإقليم، والتعامل معها انطلاقا من أنها دولة قائمة وموجودة، ومن ثم فإن التعامل معها يجب أن يتم في إطار خطاب سياسي واستراتيجي وأمني قادر على تغيير ما يجري في إسرائيل، و"محاصرتها" بمشروع سلام عربي، وفقا للواقع السياسي الجديد والذي تغير عن حقبة التسعينيات، مقارنة بما يجري الآن، ففي بدايات الحقبة كان مؤتمر مدريد، وكانت المفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف في ملفات ضبط التسلح والمياه واللاجئين والقدس وحدود الدولة والمستوطنات، واجتمعت فرق عمل عربية وإسرائيلية كاملة لصياغة بعض الأفكار واللقاءات. شخصيا كنت أحد الخبراء في لجنتي دراسة وضع المستوطنات وضبط التسلح وترتيبات الأمن الإقليمي، وشاركت في سلسلة من اللقاءات المتخصصة، وكنا شهودا على ما جرى حيث نوقشت أفكار خطيرة منها مستقبل النووي الإسرائيلي والبيولوجي العربي، والضمانات التي طلبتها إسرائيل لتجميد إنتاجها في المفاعلات النووية، وكانت هذه اللقاءات تعقد في الإقليم وخارجه، واستقبلت بعض الدول ومنها سلطنة عمان والأردن واليابان ودول في الاتحاد الأوروبي والنرويج بعض هذه اللقاءات، وشارك في بعضها عدد من المسؤولين العرب ومن أصبح لاحقا وزراء خارجية في بلادهم.
الرسالة المهمة أن هذه الاتصالات واللقاءات التي قطعت شوطا كبيرا وقتها، توصلت إلى بعض الأفكار الهامة، والتي ما تزال ملفاتها قائمة من رؤى ومشروعات، ولعل منها طرح بعض أفكار السلام الاقتصادي التي كانت قد طرحت في اجتماعات الدوحة والقاهرة وعمان والدار البيضاء وغيرها سابقا، والمسألة الرئيسية في هذا السياق ارتبطت بمرحلة زمنية معينة، تحقق فيها الحوار المباشر بين الخبراء العرب والإسرائيليين، وأذكر أن لقاءات أخرى شاركنا فيها في واشنطن وبيرن وباريس، من خلال مجموعات عمل للخبراء المعنيين بدراسات مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، وايجاد حل جذري لقضاياه بل وأكشف سرا أن بعض الخبراء الإسرائيليين وقتها ومنهم دوري جولد، وموشييه ماعوز، وشلومو بروم وآخرين طالبوا بشراء بعض المستوطنات، وعدم تفكيكها أو هدمها مثلما فعلوا عندما خرجوا من ياميت كبري مستوطنات إسرائيل في سيناء المصرية، ورفض الرئيس المصري أنور السادات التفاوض بشأنها، وطالب بإيجاد حل جذري وتم هدمها فعلا، كما تمت مناقشات خاصة بمواجهة المخاطر المشتركة وضرورة إنشاء مراكز تنبيه مبكر ومواجهة الأزمات الطارئة.
في هذا السياق من الضروري أن نستعد فعليا للتعامل مع الجانب الإسرائيلي، وهو ما يتطلب دراسة الشخصية الإسرائيلية في الوقت الراهن، والتغيير الذي طرأ عليها منذ مرحلة التسعينيات، ودراسة وضع النخب المدنية والعلمية والاقتصادية، وتصاعد تأثير العسكريين في الداخل الإسرائيلي، لكي نتعامل معه برؤية حقيقية، وليس مجرد الدخول في مشوار السلام، خاصة وأننا نتعامل مع دولة لديها الأمل أن تتجاوز الإشكالات في ظل تحديات ومخاطر حقيقية يجب التأكيد عليها، بصرف النظر عن اعتبار البعض إسرائيل "وادي سيلكون" كبير ودولة متقدمة وقادرة على المواجهة، بل علينا أن نتعامل معها على أنها دولة لديها الإمكانيات والقدرات، ولكنها ليست الدولة "السوبر" بدليل ما يجري الآن في إسرائيل وتطبيق قرار الغلق بالكامل في إطار مواجهة أزمة كورونا، وهو ما يؤكد على أن إسرائيل تواجه أزمات ومخاطر، وعلينا ألا ننبهر بالإمكانيات والقدرات الرقمية والنظرية، والتي تدخل إسرائيل في مصاف الدول الأكثر تقدما في العالم، والتي يجب أن ننفتح عليها، وأن ندخل معها في شراكات علمية وتكنولوجية ولوجيستية بما يفيدنا كدول عربية، وأن نواجه معا الخطر المشترك، والذي لا يتوقف عند التهديدات الإيرانية فقط فهناك أزمات أكبر وتحديات حقيقية في الإقليم علينا التفاعل معها، ومواجهتها والانخراط في التعامل مع تبعاتها، وهو ما يعني أن الحاجة الملحة، والتنسيق والتظافر مطلوب في ظل ما يجري مع التأكيد على أن الحفاظ على الموقف العربي للتسوية سيظل مطروحا، بدليل تركيز دولة الإمارات العربية على ضرورة وقف قرار الضم الإسرائيلي للمستوطنات.
نحتاج عربيا لهجوم من نوع أخر على الداخل الإسرائيلي، ومحاولة تحريك الخريطة الحزبية، وإيجاد فرص حقيقية للتعامل تتجاوز المشاعر والعواطف التي ستغلق الباب أمام الذين يرفضون التعامل والاشتباك الحقيقي تحت مسميات مختلفة، وأذكر أن لقاء جمعني مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، والسفير المصري تحسين بشير، والسفير صلاح بسيوني، والكاتب الصحفي لطفي الخولي قبل توقيع أوسلو، ووقتها كان مطروحا وقائما الحوار غير الرسمي من أجل إيجاد قواسم مشتركة، والتعامل الحذر مع الجانب الإسرائيلي، ولعل تجارب مصر والأردن كانت وما تزال ماثلة وقائمة للحصول على الخبرات في التعامل والمواجهة، وليس فقط مراجعة السياسات والتوجهات، خاصة وأن من حق الشعوب العربية أن يكون لها دور في المواجهة والمجابهة، وليس فقط الحكومات التي قد تتهم في بعض الأحيان بالتطبيع وفقا لحسابات وسياسات معلومة، وربما مخطط لها في المدى المنظور .
إسرائيل تتغير داخليا وتتجه إلى حالة من عدم الاستقرار المستمر، والإشكالية الحقيقية أن ما يجري لا يجب أن يشغلنا في إطار الحكومة الائتلافية، أو التصارع على تنفيذ اتفاق الشراكة بين حزبي أزرق أبيض وليكود بقدر ما هو صراع حقيقي على الأولويات وتداخل المهام وفق أجندة داخلية غير واضحة المعالم، سواء في التعامل الإسرائيلي مع الخطر الراهن والقادم من رام الله أو استمرار إطلاق الصواريخ من غزة واستمرار حالة العداء العربي لإسرائيل، برغم ما تحقق من خطوات إيجابية يرون أنها البداية لمرحلة من الواقعية السياسية المباشرة، والتي قد تتطلب مراجعات سياسية مختلفة .
في كل الأحوال لدينا من القدرات العربية الخلاقة ما يمكن أن نتعامل به مع إسرائيل والقوى الإقليمية الأخرى في المنطقة، وألا نتوقف عند حدود الشجب أو الإدانة لبعض الخطوات، كما يملك الجانب الفلسطيني فرصا ذهبية للانطلاق لتحقيق مكاسب جديدة في حال الانخراط في مناخ جديد من الاتصالات السياسية ولو غير المباشرة مع الجانب الإسرائيلي، وعبر منهاج حقيقي يركز على فكرة توسيع الرباعية الدولية، ومراقبة ومتابعة من الأمم المتحدة، فهل يمكن للجانب الفلسطيني المبادرة بدعوة إسرائيل للتفاوض المعلن؟ وإطلاق مبادرة شجاعة للرئيس الفلسطيني محمود عباس لتنفيذ ذلك، مع وضع إسرائيل أمام العالم للتفاعل والانخراط الجدي .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة