من يريد أن يحل لغز مسرحية الديمقراطية وتداول السلطة التي يتغنون بها في حركة النهضة، يمكن له أن يعود إلى تاريخ جماعة الإخوان في مصر.
تقول التجربة: إذا سمعت كلمة ديمقراطية أو تبادل للسلطة من أي من الفصائل التي تنتمي إلى جماعة الإخوان فكرا أو تنظيما، فاعلم أن هناك معنى آخر مقصود غير الذي يعلنون عنه، واعلم أن ثمة حيلة وراء ذلك. ولعل الذين يرددون ذلك، يؤكدون أن قاعدة واحدة من القواعد التي قامت وتأسست عليها هذه الجماعات، ينسف بالكلية جميع ما يدعونه من ديمقراطية أو حرية أو تبادل، خصوصا قاعدة السمع والطاعة العمياء. فكيف لعضو أو قيادي أقسم على السمع والطاعة للمرشد أو للقائد أو الأمير أن يثور عليه أو يرفض قيادته؟
وهذا يقودنا إلى داخل الفكر الإخواني التونسي، كثيرة هي المصطلحات التي تتردد داخل حركة النهضة الإخوانية في تونس، من تداول السلطة، ديمقراطية إدارة الحركة ،الانقسامات والتصدعات داخل الحركة . هذا يتأتى حين انتفض أعضاء أطلقوا على أنفسهم "إصلاحيين أو حمائم" ضد استمرار الغنوشي في قيادة الحركة، وهو الذي استمر على رأسها 35 عاما .
مئة قيادي من داخل الحركة وأعضاء في البرلمان وقعوا على وثيقة تطالب الغنوشي بعدم الترشح لولاية أخرى، تبعا لتعاليم الفصل الواحد والثلاثين من النظام الداخلي للحركة، والذي ينص على أنه لا يحق لأي عضو أن يتولى رئاسة الحركة أكثر من دورتين متتالتين". وإذا دققنا النظر إلى عنوان الوثيقة سنكتشف كثيرا من المعاني والدلالات. العنوان هو "مستقبل النهضة بين مخاطر التجديد وفرص التداول"، ثم يضيفون أن التجديد للغنوشي سيكون نوعا من أنواع طبائع الاستبداد للحاكم الفرد .
وبالتالي يسعون إلى تسويق نموذج للمواطن العربي بأن حركة النهضة الإخوانية تضرب نموذجا في الديمقراطية، ورفض حكم الفرد وتقدم بيانا عمليا للتداول السلمي للسلطة .هذا من شأنه أن يعمل غسيلا لعقل المواطن العربي، وتجميلا للصورة الإخوانية التي ارتبطت بمبدأ الطاعة العمياء .
وهو يرى أن إخوان تونس ثاروا ضد قائدهم حين أراد أن يكون متسلطا يحتكر السلطة، ليصنعوا مبررا في المستقبل لقلاقلهم التي ممكن أن يسببوها في الدول بحجة وقوفهم ضد ديكتاتورية الفرد والحكم المطلق .والقصد الحقيقي من وراء ما يفعلونه هو التسويق لجيل جديد من القيادة الإخوانية، علها تجد قبولا عند المواطن العربي .أي جيل إخواني متحضر، إصلاحي، من الحمائم، لا يشبه الغنوشي ولا يشبه جيله .
لكن الحقيقة تنجلي أكثر بالرجوع إلى تاريخ الإخوان بشكل عام في مصر أو في تونس أو في أي مكان آخر. فهم يغرفون من خزان واحد، يستعيرون الخطط والحيل التي رسمت لهم من فترات التأسيس الأولى، هي فكرة تغيير الجلد، أو إعادة تلوينه من جديد لينطلي على جيل جديد لا يملك ذاكرة تسمح له بالرجوع والتفتيش في ممارساتهم القديمة، وكشف ألاعيبهم .لكن لسوء حظهم أن تقدم التكنولوجيا، ووسائل التواصل الاجتماعي التي ضيقت العالم وجعلته غرفة صغيرة أيقظ الذاكرة الميتة، وكشفت المخفي من تواريخهم .
بالتالي من يريد أن يحل لغز مسرحية الديمقراطية وتداول السلطة التي يتغنون بها في حركة النهضة، يمكن له أن يعود إلى تاريخ جماعة الإخوان في مصر وتحديدا في ديسمبر من عام 2009 .في واقعة شهيرة وهي انتخاب أول مرشد للإخوان في مصر منذ تأسيس الجماعة، ووجود لقب أول مرشد سابق في تاريخ الجماعة، وهي التي اعتادت أن يحكم المرشد فيها حتى يموت .في 2009 بدأت تظهر للعلن عبر وسائل الإعلام ملامح معركة بين فريقين داخل الجماعة، "فريق الإصلاحيين أو الحمائم" ويتزعمهم محمد حبيب النائب الأول للمرشد، وعبدالمنعم أبو الفتوح، و"فريق الصقور المحافظين" أو " القطبيين" ويتزعمهم خيرت الشاطر ومحمد بديع. وأذكر أن تلك المعركة لاقت قبولا في الشارع المصري، بل وبين النخب وكسب وقتها أبو الفتوح تعاطفا وتأييدا كبيرين من قبل الشارع المصري، باعتباره الإخواني المتفتح الذي سيحارب الإخواني المنغلق، الإخواني الطيب الذي يقف في وجه الإخواني الشرير.
أعلن المرشد الذي كان وقتها محمد مهدي عاكف، أنه لا يريد أن يجدد لولاية ثانية، وأنه اشترط على الجماعة أن يتولى لفترة واحدة. وحقنا للخلاف بين التيار الإصلاحي والتيار القطبي، ستسلك الجماعة نهجا جديدا في تاريخها لتقدم صورة ديمقراطية راقية لتداول السلطة، وإجراء انتخابات حرة ونزية .
وفعلا جاء اليوم الموعود، وأجريت الانتخابات داخل جماعة الإخوان في القاهرة، وأسفرت عن فوز "محمد بديع" مرشدا جديدا منتخبا، ليكون المرشد المنتخب الأول في تاريخ الجماعة، ويكون أيضا محمد مهدي عاكف المرشد السابق، الذي تنازل طوعا عن الحكم في سبيل تكريس مبدأ الديمقراطية وتداول السلطة . وخرج عبدالمنعم أبوالفتوح من مكتب الإرشاد، ولم يتم تصعيد عصام العريان، وخرج محمد حبيب النائب الأول الذي كان ينتظر أن يصبح مرشدا، بعدها مباشرة جاء موعد الانتخابات البرلمانية المصرية في 2010 التي كانت وبالا على نظام حسني مبارك، وأدارها "أحمد عز" رجل الأعمال المصري . تلك الانتخابات التي قيل عنها إنها كانت القشة التي قصمت ظهر نظام الرئيس الراحل محمد حسني مبارك .
بعدها جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير، ليعود اسم عبدالمنعم أبو الفتوح في الظهور باعتباره "الإخواني الطيب" الذي رفض الاستمرار مع "الإخوان غير الطيبين"، ودخل مضمار الانتخابات الرئاسية وفعلا كسب شعبية وتعاطفا كبيرين والسبب كان حادثة خروجه من الجماعة ومسرحية الانتخابات الإخوانية .
في المحصلة كان الشعب المصري وقتها أمام مشهد يبدو وكأنه بين إخواني "متشدد" وهو محمد مرسي ومن خلفه خيرت الشاطر، وإخواني طيب وهو عبدالمنعم أبوالفتوح، وأي أصوات انتخابية مهما خرجت ستكون في السلة الإخوانية، إما في سلة "أبوالفتوح أو في سلة مرسي". وفي النهاية امتلأت "سلة مرسي" وحكم مصر .
من هنا وبعد تنشيط الذاكرة نعود إلى إخوان تونس، إلى حركة النهضة، إلى مسرحية تداول السلطة وإعادة تسويق "الإخواني الطيب في مواجهة الإخواني غير الطيب"، صورة الإصلاحيين المئة الذين وقعوا على وثيقة رفض إعادة حكم الغنوشي للحركة وضرورة تبادل السلطة .
قد لا تستغربون لو وجدتم أن الغنوشي يلجأ إلى الانتخابات الحرة والنزيهة، كما لجأ مرشد الإخوان في مصر محمد مهدي عاكف .كلها سيناريوهات إخوانية مقروءة أو مفضوحة .وكما كشفت الأيام المخفي وراء حادثة الديمقراطية الإخوانية المزيفة في مصر 2009، أيضا ستكشف المخفي وراء مسرحية تداول السلطة داخل حكرة النهضة الإخوانية التونسية .
لعل عين التحليل تُسلط على نقطة مهمة يمكن لها أن تكشف المخفي والمسكوت عنه في هدفهم من وراء ذلك .هنا علمتنا التجربة أن لا نضيع وقتا ونذهب مباشرة إلى العقل المبدر واليد التي تدير في الخفاء .
في الحالة التونسية ليس الأمر صعبا، فبقليل من التدبير والتفكر تستطيع أن تفك تلك الشفرة الإخوانية، وستجد كلمة السر هناك في تركيا عند أردوغان .الذي رمى جميع عصيه في ساحة مبارزة السحرة فتحولت إلى أفاع لكنها وجدت من يتعامل معها ويبطل سمها، وكان هذا متمثلا في مجموعة من حوائط الصد التي أدارت الوعي أكثر من القدرة الاقتصادية أو العسكرية، لعل ذلك تمثل في الشعب التونسي الذي كان بالمرصاد لألاعيب الغنوشي . أو القيادات المصرية الواعية التي لعبت مع أردوغان بمنهج الهدوء وتفكيك الحيل وقلب الطاولة عليه .
نكمل في المقال القادم .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة