حاول النقاد قبل عقود تكريس مفهوم أن الرواية ابنة المدينة، إذ التفاصيل والحياة والنبض والفرح والصخب صفات ينتفي وجودها في الصحارى.
الصحارى في نظر هؤلاء يطبق عليها الصمت والسكينة، عدا صرير الريح وزوابع الرمال ويابس الشجر المتطاير هنا وهناك.
الرأي السابق كرّسه نقاد غربيون بطبيعة الحال، كون الرواية بمفهومها الحديث فنا وابتكارا غربيا، ولا أتصور أن ناقدا عربيا حقيقيا يمكنه انتزاع الحياة من الصحراء في ذلك الوقت ووقفها على المدينة، وأي عربي يجرؤ على ذلك وقد قرأ شعر الجاهلية، الذي حرّك الرمال وأقام عليها الأوتاد لخبائه، وأجرى على كثبانها الحياة، وفي فلواتها الشوق والوجد حتى أنطق الحجر والشجر حينها، في وقت كان العرب ينفرون فيه من الحواضر، حين هَجَت ميسون بنت بحدل بن أنيف الكلبية، وهي زوجة الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، المدينة، منتصرةً للصحراء، قائلة أبياتها الشهيرة التي مطلعها:
لَبَيتٌ تَخفِقُ الأرياحُ فيه..
أَحَبُّ إليَّ مِن قَصرٍ مُنيفِ
ومُذ بدأ فن الرواية الحديث والْتقفه العرب، اقتنع الجميع بالطرح السابق، أي لا أدب في الصحراء، فجميع مَن يكتبون الأدب هم أبناء المدينة، والصحراء لا تنتج كُتّابَ روايات، فجميعهم وُلدوا ونشؤوا في المدن، ومن ثم صَدَروا منها إلى العالم، المدينة حيث عاشوا الآمال والخيبات وتقلبات الحياة وتحولاتها نشأةً ومصيرا، القضايا التي كانت مادة للرواية وزخرت بها أقلام أقطاب الأدب العربي، وعلى رأسهم نجيب محفوظ.
والقضية هنا تتشعب في اتجاهاتٍ وأسئلة عدة، منها: أي أدب يمكن كتابته عن الصحراء لمن لم يعش في الصحراء أو يعرف قضاياها؟
ودون أن أمضي بعيدا، ودون عناء، رأينا المفاجأة المدوية، التي أحدثها كُتّاب أدب الصحراء في الأوساط الأدبية والنقدية، مثل صبري موسى، وعبد الرحمن منيف، والأديب العالمي إبراهيم الكوني، الذي كانت الصحراء وأساطيرها وفلسفتها مسرحا لملاحمه التي لا يزال يُتحفنا بها.
الآن، وقد تجاوزنا جدل الأمكنة والأزمنة، وعرفنا أن في الصحراء أدبا لا يُضاهَى وأساطير وملاحم لا تنضب، فلننظر إلى الواقع، ونبعد شبح الرؤية النقدية التي تحول بيننا وبين بناء رؤية واضحة للصحراء، التي نعيش وهم البعد عنها، فيما الحقيقة أننا وسطها تماما.
ولنبدأ بمصر، حيث لا تزال الأهرامات والمسلات والمعابد، التي انبثقت وسط الصحراء قائمة ناطقة، لا يستطيع أي مصري أن يشيح بصره عنها، حيث التاريخ والإلهام واقفان يلحّان على المبدعين ويستجديان كتابتها، وكذا في نجد والحجاز، حيث ولدت الصبابة، وحيث البطاح لا تزال ناطقة والخِيم قائمة والإبل سارحة والكرم الطائي ينادي الجميع.. أبَعْدَ كل هذا يأتي جيل نافر يدّعي ألا أدب في الصحراء، أو أن أدب الصحارى قد توارى.
خلاصة القول، إن الأدباء، ومنهم إبراهيم الكوني، المصنف من قبل مجلة "لير" الفرنسية كعربي وحيد بين 51 أديبا يمثلون الأدب العالمي المعاصر، أكدوا لنا أن أدب الصحراء هو المفهوم الأقرب، الذي يجب أن يكون عليه الأدب العربي في عصرنا، لا أن نزاحم الغرب في أدب المدن، الذي اخترعه ونسجه ومضى به بعيدا، حيث لا يمكننا اللحاق به، ولولا أن نجيب محفوظ خلق مفهوما جديدا للأدب يفارق مفهوم أدب المدينة الغربي لما وصل بنا إلى العالمية، حيث بنى مفهوما عربيا خالصا للأدب، أدب الحارة والحي، الحارة المصرية، التي وُلدت قبل أن تولد معظم مدن الغرب، التي نشأت منها الرواية بمفهومها الحديث، فبمثل هذا الأدب يجب الاهتمام.. لا أن نحاكي أدبا غربيا له مفاهيم مختلفة تماما عن مفاهيمنا وأرواحنا وحقيقتنا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة