بينما كان أطفال بريطانيا يستقبلون الدمية "أمل"، التي قطعت ثمانية آلاف كم بين دول أوروبا لتدعوها للرأفة باللاجئين، كان وزير الداخلية الإيطالي السابق، ماتيو سالفيني، أمام القضاء لمنعه قاربا لهؤلاء المستضعفين من الرسو بأحد مواني بلاده.
الحقيقة أن "أمل" و"سالفيني" يقفان على طرفي نقيض في أوروبا، ويمثلان توجُّهين لا يشكلان الأغلبية ولا يستطيع أي منهما أن يفرض موقفه ويجعله توجها سائداً.
"أمل" دمية خشبية تمثل طفلة سورية لاجئة في التاسعة من عمرها، انطلقت من تركيا في السابع والعشرين من تموز الماضي، وعبرت ثماني دول أوروبية، منها اليونان وإيطاليا وبلجيكا وسويسرا وألمانيا وفرنسا، حتى وصلت إلى محطتها الأخيرة في بريطانيا وهي تحمل شعارا مؤلفا من كلمتين اثنتين: "لا تنسونا".
أما "سالفيني" فهو زعيم حزب الرابطة الإيطالي اليميني المتطرف، ويُحاكَم بتهمة احتجاز مهاجرين في البحر بصورة غير قانونية عام 2019 عندما كان وزيرا للداخلية، فقد رفض لمدة ستة أيام متتالية السماح برسو آمن لسفينة المنظمة غير الحكومية الإسبانية، التي توقفت قبالة جزيرة لامبيدوزا، وهي تحمل لاجئين يعانون المرض والجوع.
مَن صنع "أمل" أراد القول إنه يجب على الدول الأوروبية فتح أبوابها للمهاجرين من كل مكان، وأن تبقى مخلصة لقيم حرية الإنسان وحقه بالعيش في أي مكان يلجأ إليه هربا من الموت أو الجوع أو المرض.
أما "سالفيني" فقد ردّ على الاتهامات الموجهة إليه بأنه "كان يمارس واجبه المقدس في الدفاع عن الوطن"، وهو هنا يمثل فئة من الأوروبيين ترى أن اللاجئين والمهاجرين "مجرد عبء" يجب التخلص منه أياً كان الثمن.
منذ سنوات وقضية اللاجئين تفرض نفسها على كل قمة تُعقد، وكل اجتماع يلتئم على مستوى مسؤولي الصف الأول في الاتحاد الأوروبي.
زخم هذا الحضور تفرضه الظروف، لكن هاجس القضية لم يغب يوما عن أذهان الأوروبيين وساستهم.
لا توجد حلول جذرية كما يشتهي مؤيدو الدمية "أمل" أو أتباع نهج "سالفيني"، والخيار الأفضل حتى الآن تسويف تلو الآخر، وتفويض الزمن ليحل ما يحل من خيوطها المتشابكة.
الاستحقاقات والبرامج الانتخابية في الدول الأوروبية لم تستطع أن تتخلّى عن قضية اللاجئين والمهاجرين منذ سنوات، ومن يريد الفوز عليه احتساب كلماته ومواقفه بدقة شديدة عندما يتحدث عنها، ولا نُجافي الحقيقة بالقول إن هذه القضية كانت ولا تزال المحدد الرئيسي لأصوات الناخبين الأوروبيين في بعض الدول.
تصاعد حضور اليمين الشعبوي منذ تفجّر أزمة اللاجئين عام 2015، وقد أوصل ساسة، مثل "سالفيني"، إلى الواجهة، ولكن حرب هذا التيار مع الفئات، التي تؤيد "الدمية أمل" من جهة، والتي ترفض سيادة الشعبويين وسلطتهم من جهة أخرى، لم تُحسم بعد، وتأخذ طابع معارك الكر والفر.
أكثر المستفيدين سياسيا من اللاجئين اليوم هم الذين يتبنون مواقف وسطية حيالهم، فيؤيدون دمج جزء منهم وترحيل الجزء الآخر.
والواقع هنا أن "الوسطيين" يعكسون من "سالفيني" وجهين، فهم لا يرفضون إبعاد هؤلاء المستضعفين، ولا يقبلون أيضا بأن تُفتح حدود بلادهم مرة أخرى لاستقبال ملايين أو مئات آلاف اللاجئين الجدد.
الأوروبيون يصرفون مليارات الدولارات لتركيا وغيرها من الدول سنويا لمنع موجات لاجئين جديدة من التدفق إلى القارة العجوز، كما ينفقون مبالغ كبيرة للإبقاء على مراكز احتجاز اللاجئين والمخيمات، التي تنتشر في دول القارة، حتى تحين اللحظة المناسبة لترحيلهم إلى أوطانهم، أو نقلهم إلى "معتقلات" وراء البحار والمحيطات.
ولأن قضية اللاجئين باتت مادة حاضرة دائماً في الخطب والبرامج الانتخابية للساسة الغربيين، برزت في الآونة الأخيرة بدول أوروبية عدة لهجة ساخرة إزاء هذا الاهتمام المبالغ فيه، والذي تجاوز ملفات داخلية شديدة الأهمية أحيانا.
من أمثلة هذا التهكم تلك البرامج الكوميدية المتلفزة، التي تقدم نصائح للوافدين الجدد كي تتقبلهم المجتمعات الأوروبية، ومن هذه النصائح أن يغيروا لون بشرتهم إلى الأبيض.
وحُدّد تعريف اللاجئ لأول مرة منذ 100 عام عقب الحرب العالمية الأولى، وهو "شخص غير قادر أو غير راغب في العودة إلى بلده بسبب خوف مبرر من التعرض للاضطهاد لأسباب عرقية أو دينية أو جنسية أو سياسية أو اجتماعية".
ويتمثل المبدأ الأساسي لحماية هذا اللاجئ وفقا لاتفاقية أممية بدأ تنفيذها عام 1954، بحظر إعادة الأشخاص إلى دول يواجهون فيها تهديدا حقيقيا بالاضطهاد.
الإحصائيات الرسمية لمنظمة الأمم المتحدة تشير إلى نحو 26.4 مليون لاجئ حول العالم بحلول نهاية عام 2020، ولكن المفوضية السامية للاجئين تقول إن عدد الفارين من بيوتهم ومناطقهم ولم ينعموا بحياة جديدة بعد يصل إلى 65 مليون شخص، وربما الغالبية الساحقة من هؤلاء يحلمون بالعيش في "جنان" الغرب.
ولأن أسباب اللجوء وأشكاله قد زادت وتغيرت كثيرا منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية وحتى الآن، تقترح صحيفة "إيكونومست" البريطانية إعادة تعريف اللاجئ، وإعادة النظر في اتفاقية اللاجئين، ولكنها تقر بعدم وجود دعم سياسي دولي لهذه الفكرة.
الأسئلة الصعبة، التي تواجه القارة الأوروبية اليوم، لا تدور حول تعريف اللاجئين ولا حول كيفية دمجهم في المجتمعات، التي باتوا يعيشون فيها، وإنما حول كيفية ترحيل أعداد كبيرة منهم، ومنع المزيد من الوصول إلى دول القارة.
لا يبدو أن الساسة في هذا مهتمون بما تقوله الدمية "أمل"، ولكنهم حتما يترقبون نتائج محاكمة "سالفيني".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة