جيوسياسية ترامب.. خرائط تُرسم بمداد الهيمنة القديمة

في عالم السياسة الدولية، يبرز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بمفهوم جديد لعلاقات الولايات المتحدة مع بقية العالم، مما يعكس طموحات إمبراطورية قديمة في ثوب معاصر.
طموحات ترامب في إعادة رسم خريطة العالم تأتي متجاهلةً تمامًا آلام وأصوات أولئك الذين يُعتبرون بيادق في لعبة الشطرنج الجيوسياسية التي يقودها، مثل الفلسطينيين والأفغان والغرينلانديين والبنميين، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، التي قالت إن السياسة الخارجية لترامب تبدو وكأنها تسعى لإعادة بناء النفوذ الأمريكي على حساب الأمن والاستقرار الإقليمي.
ويشير الخبراء إلى أن نهج ترامب في التعامل مع قضايا السياسة الخارجية يعيد إحياء أسلوب الإمبريالية القديمة، الذي يعتمد على القوة والصفقات المباشرة بدون إضفاء الشرعية على الحوار أو أخذ رأي المعنيين بعين الاعتبار. مثلما فعلت القوى الاستعمارية الكبرى في الماضي، يسعى ترامب إلى فرض الواقع على الأطراف المتضررة دون التفكير في عواقب هذه السياسات، من أوكرانيا إلى غزة وحتى قناة بنما.
تُظهر هذه السياسات كيف أن ترامب، بعيدًا عن أي أيديولوجية، يضع المصالح التجارية والاقتصادية الأمريكية في قلب كل قرار سياسي، متجاهلاً في الوقت ذاته «الكارثة الإنسانية التي قد تترتب على تلك القرارات»، بحسب الصحيفة الأمريكية.
صراعات جديدة
وحذرت من أن ما يحدث في العالم تحت قيادة ترامب قد يفتح الباب لصراعات جديدة تؤججها سياسات خفية تضع أعباءً هائلة على الشعوب المتأثرة. وبينما يُتوقع أن تستمر هذه السياسات في تشكيل الجغرافيا السياسية، تظل الأسئلة حائرة: هل يمكن للولايات المتحدة إعادة تشكيل العالم فعلاً بدون أن تُنصت للأصوات الضعيفة التي تظل مهملة في طاولة مفاوضات ترامب؟
ويقول تشارلز أ. كوبشان، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون: «لقد كان استخدام القوة المفرطة جزءًا من السياسة الخارجية الأمريكية طوال تاريخنا. لكن كانت هناك عادة جهود لإضفاء الشرعية على القوة الأميركية من خلال شكل من أشكال الحوار. إلا أن هذا غائب عن السياسة الخارجية لترامب».
في ميله إلى عقد صفقات لا تأخذ في الاعتبار بشكل مباشر أولئك الذين يتأثرون بها، فإن السياسة الخارجية لترامب تعكس سياسة عصر مضى، عندما خاضت القوى الإمبريالية لعبة كبيرة من أجل النفوذ، دون أي تظاهر بأن فتوحاتها كانت متجذرة في رغبات السكان المحليين.
وقد تم تشبيه غرائز ترامب التوسعية بغرائز ويليام ماكينلي، الرئيس الأمريكي الخامس والعشرين، الذي أدى انتصاره في الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898 إلى وضع الفلبين وجوام وبورتوريكو تحت سيطرة الولايات المتحدة الناشئة. كما ضم هاواي أيضًا.
ويرجع المؤرخون الاستياء الذي اندلع إلى صراع في الشرق الأوسط إلى الطبيعة التعسفية لتقسيم أوروبا للمنطقة. ويتساءل البعض عما إذا كان النهج المتغطرس الذي يتبناه ترامب تجاه مصالح الفلسطينيين أو البنميين قد يؤدي إلى تأجيج التوترات الجديدة وإشعال الصراعات في المستقبل.
وقال ريتشارد هاس، الرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية، في إشارة إلى الهجوم الذي شنه مقاتلو حماس من غزة على إسرائيل: «كما أظهر السابع من أكتوبر، فإن تجاهل السكان المحليين يعرضك للخطر». وقد أدى ذلك إلى اندلاع الحرب التي يقترح ترامب إنهاءها بتشتيت 2.1 مليون فلسطيني في غزة إلى الأردن ومصر، ثم الاستيلاء على الجيب لإعادة تطويره كريفيرا عربية.
وأضاف هاس: «في نهاية المطاف، فإن ما يحدث في أوكرانيا أو غزة أو بنما سوف يتأثر بشدة بالناس الذين يعيشون في تلك الأماكن. إن قدرة الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين على التحكم في هذه الأمور ليست تلقائية».
مفاجأة ترامب
وبحسب هاس، فإنه من السابق لأوانه استنتاج أن ترامب ينوي إقصاء الأوكرانيين عن المفاوضات مع روسيا. وأصر الرئيس نفسه على أن أوكرانيا ستكون جزءًا من العملية، وكذلك الدول الأخرى. واتصل بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعد التحدث إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
لكنّ إعلان ترامب عن مفاوضات سلام "فورية" مع روسيا ــ وهو ما فاجأ زيلينسكي وكذلك الزعماء الأوروبيين ــ حمل السمات المميزة لنهج الحرب الخاطفة في التعامل مع الجغرافيا السياسية في الأيام الأولى من ولايته الثانية. وبدا اقتراحه بإخلاء غزة وكأنه فاجأ حتى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان يزوره في واشنطن.
وقال محللون إن السرعة الخاطفة التي يتسم بها ترامب كانت تهدف إلى زعزعة استقرار المنتقدين المحتملين لصفقاته وتقليص الضغوط أو التدقيق التي قد تؤخر أو تضعف تلك الصفقات.
وبحسب محللين آخرين، فإن ترامب تعلم من ولايته الأولى، عندما أشرف وزير خارجيته في ذلك الوقت، مايك بومبيو، على مفاوضات أكثر تقليدية مع زعماء طالبان لإنهاء الحرب في أفغانستان.
يقول فالي ر. نصر، أستاذ الشؤون الدولية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة: «لقد تعلم ترامب أن المؤسسة ووسائل الإعلام يمكن أن تمارس ضغوطًا هائلة على أي اتفاق. ويتلخص نهجه الآن في تقديم الأمر الواقع للعالم، دون أي مجال للتأثير على الأمور».
نصر، الذي عمل على السياسة الأفغانية أثناء إدارة أوباما، أضاف، أن «الصفقات التي تكون غامضة إلى هذا الحد ويتم إجراؤها بهذه السرعة تكون أكثر عرضة للأخطاء الجسيمة لأنها لا تخضع للتدقيق».
لكنّ ترامب ليس الرئيس الوحيد الذي حاول عقد صفقات بشكل خاص. فقد تفاوض الرئيس باراك أوباما على التقارب مع كوبا ــ والذي تراجع عنه ترامب لاحقا ــ تحت ستار من السرية. وسمح أوباما للدبلوماسيين الأمريكيين بفتح قناة خلفية سرية مع المسؤولين الإيرانيين، وهو ما مهد الطريق لاتفاق نووي ألغاه ترامب أيضا في وقت لاحق.
ويبدو أن ترامب يشعر براحة أكبر في التعامل مع الخصوم أكثر من الحلفاء، ما قد يفتح الباب أمام جولة جديدة من الدبلوماسية مع إيران، يقول هاس، مشيرًا إلى أن هناك أيضًا إمكانية لأن يحرز ترامب تقدمًا مع بوتين في إنهاء الحرب.
ومن المرجح أن تأتي المشكلة في جهود ترامب للضغط على الحلفاء، فلم يقبل العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني ولا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لمقترحه باستقبال اللاجئين الفلسطينيين من غزة. ورفضت بنما طلبه بأن تستولي الولايات المتحدة على قناة بنما.
كذلك، رفضت الدنمارك اقتراح ترامب بشراء غرينلاند، إقليمها شبه المستقل. وقد رفضت غرينلاند نفسها الأمر نفسه، على الرغم من أن رئيس الوزراء، موتي إيجيدي، قال إنه سيكون منفتحًا على العمل مع الولايات المتحدة في مجال الدفاع والموارد الطبيعية.
سياسة تجارية
ويقول المحللون إن السياسة الخارجية للرئيس متجذرة في الحسابات التجارية إلى الحد الذي يجعل السكان المحليين لا يدخلون في المعادلة إلا نادراً؛ فغرينلاند تقع على طول ممرات الشحن القطبية الشمالية القيمة، ومثلها كمثل أوكرانيا، تتمتع برواسب معدنية غنية. وبنما لديها قناتها الخاصة. وغزة تتمتع بساحل خلاب على البحر الأبيض المتوسط.
يقول البروفيسور كوبشان، الذي عمل في الشؤون الأوروبية في إدارة أوباما: «ترامب مادي بنسبة 100%. ولا يوجد ذرة من الأيديولوجية في أي من هذا».
وأضاف، أن ماكينلي حين بدأ الحرب الإسبانية الأمريكية، كان يفعل ذلك ظاهرياً لتحرير الكوبيين من الحكم الاستعماري الإسباني. وحتى غزو الفلبين، كما يقول، كان يتم تحت ستار «مهمة حضارية».
وتابع: «إن هذا يخلو من أي مهمة حضارية. إن هذا النوع من النهج التعاملي الصريح، الذي لا يتسم بأي أيديولوجية، هو أمر جديد».
aXA6IDE4LjE4OC4xMTguMTU0IA== جزيرة ام اند امز