جفاف الأنهار.. الاقتصاد العالمي المرهق يسدد فواتير الاستهتار بالمناخ
تعتبر الأنهار، كنوزا اقتصادية متدفقة يزخر بها العالم، لكن ذلك المورد المائي الاستراتيجي مهدد بالجفاف وينذر بكارثة عاصفة في قارات متفرقة.
بشكل غير مسبوق منذ عقود، أنهار عملاقة في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية تواجه جفافًا عنيفًا يهدد بأزمة جوع عالمية، لن تسلم منها الدول المصدرة للغذاء، فضلًا عن المستوردة له على غرار البلدان العربية.
قد يعيد ارتفاع عدد حالات الجفاف بنسبة ٢٩% مقارنة بسنة ٢٠٠٠، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، العالم إلى التحذيرات التي أطلقتها دراسة لمنظمة "كرستيان أيد"، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، من التأثيرات الكارثية للتغير المناخي، على ٦٥ دولة على الأقل، كما يعطي أهمية مضاعفة للدورة السابعة والعشرين من مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ، كوب ٢٧، التي تستضيفها شرم الشيخ في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
تبخر الأنهار في أوروبا.. والخسائر باهظة
لم تترك أزمة التغير المناخي جزءًا في العالم إلا وطالته، وباتت الآن تهدد شرايين المياه في أوروبا، بعد أن سجلت القارة العجوز درجات حرارة قياسية، تسببت في تبخر مياه أنهارها الكبيرة، كما تهدد بتبخير نحو 80 مليار دولار من اقتصاد الاتحاد الأوروبي.
وتشهد قارة أوروبا أسوأ موجة جفاف قال العلماء إنها لم تحدث في القارة العجوز منذ نحو 500 عام.
ويمكن الآن في فرنسا عبور نهر اللوار سيرًا على الأقدام كما أصبح نهر الراين الذى يمر عبر سويسرا، وفرنسا، وألمانيا، سطحا لا يسمح للمراكب بمروره بسبب ضحالة مياهه وانخفاض منسوبها، وفي إيطاليا، ينخفض مؤشر نهر "بو" بمقدار مترين عن المحاصيل العادية التي أصيبت بالشلل.
وأما نهر الدانوب، والذي يشق طريقه عبر مساحة 1800 ميل بين وسط أوروبا والبحر الأسود، يجف هو الآخر، مما يعيق حركة تجارة الحبوب وغيرها.
يأتي ذلك بدافع الانهيار المناخي، وأدى فصل الشتاء والربيع الجافان بشكل غير عادى ، متبوعَين بدرجات حرارة قياسية في الصيف وموجات حر متكررة ، إلى نقص تجديد الممرات المائية الأساسية في أوروبا وزيادة سخونتها بشكل متزايد.
وفي جميع أنحاء القارة العجوز، يعمل الجفاف على تقليل الأنهار محولًا إياها إلى "قطرات صغيرة"، وهو ما من شأنه أن يغير ملامح القارة ليس على مستوى المسطحات فقط، بل بما يصطحب معه عواقب وخيمة محتملة على الصناعة والشحن والطاقة وإنتاج الغذاء.
فيما حذر مركز الاتحاد الأوروبي للبحوث المشتركة في تنبؤات نشرها مؤخراً أن ارتفاع درجة الحرارة والجفاف ربما يؤديان إلى انخفاض إنتاج الحبوب في أوروبا بنسبة تتراوح ما بين 8 و9%.
الجفاف الذي يصيب الأنهار في أوروبا يسبب اضطرابات قوية في حركة التجارة عبر الأنهار، والتي تعد عنصرًا مهمًا للنقل بين الدول الأوروبية، وهذا يحدث، بعد أربعة سنوات فقط من توقف مشابه لحركة النقل التاريخية عبر نهر الراين الشهير، لتراجع منسوب المياه فيه خلال 2018، مما يزيد الضغوط على الاتحاد الأوروبي لدعم قطاعات النقل، في وقت يواجه فيه الاتحاد العديد من التحديات بسبب أزمة أوكرانيا ونقص الغاز وغيرها.
للأنهار والقنوات المائية أهمية كبيرة للاقتصاد الأوروبي، إذ تساهم حركة النقل النهري بنحو 80 مليار دولار في اقتصاد منطقة اليورو، بحسب بيانات هيئة "يوروستات"، وهو مبلغ قد تفقده ميزانية دول الاتحاد الأوروبي إذا ما توقفت حركة النقل عبر الأنهار والقنوات المائية بالمنطقة.
وتشير التوقعات، والتي تفترض استمرار الظروف السيئة، إلى أن اقتصاد منطقة اليورو قد يفقد نحو 5 مليارات دولار بسبب الأضرار التي تمنع حركة التجارة عبر نهر الراين حاليًا.
إن قدرة الدول الأوروبية على استخدام النقل النهري أصبحت محدودة بشكل كبير، خاصة في ظل قلة الأمطار، ما يتسبب في زيادة تكلفة بدائل النقل الأخرى بشكل كبير، ففي يوم واحد، ارتفعت أسعار الشحن بنحو 30%.
وتأتي المفارقة، أن أوروبا كانت تنوي الاعتماد بشكل كبير على الممرات المائية كجزء من جهودها لمكافحة التغير المناخي وتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، إذ كانت تستهدف المفوضية الأوروبية زيادة النقل عبر الممرات المائية بنحو 25% بحلول 2030.
وكان المرصد الأوروبي لمراقبة الجفاف قد أعلن أن قرابة ثلثي القارة الأوروبية عرضة لتهديد الجفاف، لافتًا إلى أن أحدث البيانات التي تم جمعها أظهرت أن 60% من أوروبا عرضة حاليًا لخطر الجفاف، مشيرًا إلى أن 45% من أراضي القارة الأوروبية تعرضت للجفاف بحلول منتصف شهر يوليو الماضي، محذرًا من حدوث عجز مائي شديد في 15% من القارة، مما يؤثر على إنتاج الغذاء والطاقة ومياه الشرب والحياة البرية.
ويحتل الاتحاد الأوروبي المركز الثالث بنسبة 7.52% بين أكبر 10 كيانات مسببة للانبعاثات الحرارية في العالم، بعد الصين المسئولة عن 26.1% من الانبعاثات العالمية، ثم الولايات المتحدة التي تساهم بنسبة 12.67% ثم الهند رابعًا بنسبة 7.08%.
الجفاف يزحف نحو أنهار أمريكا والصين
لكن أزمة جفاف الأنهار لم تقتصر على أوروبا، فنهر كولورادو في الولايات المتحدة والذي ينبع من جبال الروكي ويوفر المياه لولايات الغرب الأمريكي ويصب في المكسيك، يعاني هو الآخر من تراجع حاد في مستوى مياهه.
ويعتمد على مياه نهر كولورادو الرئيسية في جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية؛ نحو 40 مليون شخص في المكسيك و7 ولايات مختلفة للشرب والزراعة والكهرباء.
وينذر تراجع المستوى بفتح صراع غريب على تقاسم مياهه بين عدة ولايات في الغرب الأمريكي؛ إذ أعلن مكتب الاستصلاح الأمريكي أن ممثلي ولايات "آريزونا، وكاليفورنيا، وكولورادو، ونيفادا، ونيو مكسيكو، ويوتا، ووايومنغ"، فشلوا في التوصل إلى اتفاق حول كيفية خفض استخدامهم للمياه بنسبة 15 بالمئة على الأقل.
وبرزت توقعات تشير إلى احتمالية انخفاض إنتاج الخس في ولاية أريزونا، التي تزرع معظم الخس الذي يتم تناوله في الولايات المتحدة الأمريكية كل شتاء، ومن المرجح أن تفقد الولاية نحو خُمس المياه "21%" التي تحصل عليها من نهر كولورادو نتيجة انخفاض منسوب حوض المياه الرئيسي بسبب الجفاف وتغير المناخ.
وفي الصين التي يزيد عدد سكانها على مليار و400 مليون نسمة، يثير الجفاف الذي ضرب 66 نهرًا في 34 مقاطعة بمنطقة تشونغتشينغ (جنوب غرب)، مخاوف إمدادات السلع بين المقاطعات، حسب التلفزيون الرسمي.
فنهر اليانغتسي، أطول أنهار الصين وثالث أطول نهر في العالم لم يسلم من ارتفاع درجات الحرارة والجفاف الذي يطول أجزاء واسعة من البلاد.
ووفقًا لبيانات أصدرتها وزارة الطوارئ الصينية خلال الأسبوع الثالث من أغسطس/آب الجاري، فقد أدى ارتفاع درجات الحرارة، في شهر يوليو، وحده، إلى خسائر اقتصادية مباشرة بلغت قيمتها ٤٠٠ مليون دولار.
ومن مظاهر هذا الجفاف، تقلص بحيرة بويانغ إلى ربع حجمها لهذا الوقت، وأهميتها تكمن في أنها أحد أحواض الفيضان المهمة لنهر اليانغتسي، وفق وكالة "شينخوا".
هذا النهر العظيم يقطع الصين عرضيا ليصب في بحر الصين الشرقي، ونضوبه يعني أن أكبر بلد من حيث السكان مهدد بالجوع، ما سيخلق طلبا غير مسبوق على إمدادات الغذاء في العالم. لقد تسبب الجفاف في أضرار خطيرة بأطول أنهار آسيا، الذي يتدفق على طول 6300 كيلومتر عبر الصين ويغذي مزارع تنتج كثيراً من غذاء البلاد ويشغل محطات كهرومائية ضخمة، بما فيها "سد الممرات الثلاث"، أكبر محطة كهرباء في العالم.
ومع احتمال أن يتمخض تغير المناخ عن موجات حرارة وجفاف أكثر تواتراً واستمراراً، تثير الانقطاعات الحالية تساؤلات طويلة الأجل حول اعتماد الصين على الطاقة الكهرومائية، وهي أكبر مصدر للطاقة النظيفة في البلاد، حيث مثلت نحو 18% من مصادر توليد الكهرباء في 2020، وفقاً لـ"بلومبرج لأبحاث تمويل الطاقة المتجددة".
وتبقى الإشارة إلى أن دراسة منظمة «كرستيان أيد»، صدرت على هامش الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ، كوب ٢٦، التي استضافتها مدينة جلاسكو البريطانية، وذكرت أن الـ٦٥ دولة الأكثر عرضة لتأثيرات التغير المناخي، ستشهد انخفاضًا في إجمالي ناتجها المحلى بمعدل ٢٠% بحلول سنة ٢٠٥٠ وبنسبة ٦٤% سنة ٢١٠٠ إذا ارتفعت درجة حرارة العالم ٢.٩ درجة مئوية. وحال تحقق الهدف الأكثر طموحًا، وعدم تجاوزها عتبة الـ١.٥ درجة مئوية، فإن إجمالي الناتج المحلى لهذه الدول سيتراجع بنسبة ١٣% بحلول ٢٠٥٠ وبنسبة ٣٣% مع نهاية القرن الحالي.