في زحمة الخوف على أبنائنا، نمدّ إليهم مظلاتٍ كبيرة من الحماية، نغطيهم من الرياح، ونحجب عنهم المطر، ونظن أننا نحسن صنعًا.
لكننا، من حيث لا نشعر، نمنع عنهم أيضًا أشعة الشمس التي تنضج التجارب، ونكسر فيهم ذلك الغصن الفتي الذي كان يحتاج أن يواجه نسمة الحياة وحده.
إن التربية ليست جدارًا يمنع الريح، بل بوصلة تُرشد إلى الاتجاه الصحيح. والفرق كبير بين أن نمنع أبناءنا من الخطأ، وبين أن نُعلّمهم كيف يتعاملون معه حين يحدث. فالأخطاء جزء من رحلة التعلّم، لكنّ المقصود بها الأخطاء المقبولة التي يمكن إصلاحها، لا تلك التي تجرّ إلى الكوارث أو تُدمّر حياة الإنسان أو تضرّ بالآخرين. يجب أن نسمح لأبنائنا أن يتعلّموا من زلاتهم الصغيرة، لا من هاوياتٍ عميقة يصعب الخروج منها. فليجرّبوا، ولكن ضمن حدود العقل والأمان، وليتعلموا أن الحرية مسؤولية، وأن الاختيار لا ينفصل عن العواقب.
كثيرٌ من الآباء والأمهات (وأنا أولهم) اليوم يعيشون هاجس الخطر، فيحيطون أبناءهم بعالمٍ ناعمٍ من التعليمات والتحذيرات: "انتبه"، "لا تخرج"، "لا تتكلم مع الغرباء"، "دعني أقرر عنك". تتكرر هذه العبارات حتى يترسخ في ذهن الطفل أن الحياة مخيفة، وأن الخطأ جريمة، وأن الأمان لا يتحقق إلا بوجود من يمسك بيده دائمًا. ومع مرور السنوات، يكبر الطفل في جسد، لكنه يبقى في داخله صغيرًا، لا يعرف كيف يختار، ولا يجرؤ على أن يقول "لا"، ولا يملك الثقة بأن يسير خطوةً واحدة دون أن يلتفت وراءه.
الحماية الزائدة، مهما كانت نواياها نبيلة، تُنتج جيلًا هشًّا من الداخل، يخاف من الفشل أكثر مما يحب النجاح، ويستسلم لأي صوتٍ أقوى من صوته، حتى لو كان ذاك الصوت يقوده إلى الخطأ. وفي عالمٍ مفتوح السماء - حيث يكثر الأصدقاء السيئون، والمغريات تتسلل إليه من شاشة الهاتف - فإن هذا الضعف يصبح ثغرةً واسعة يدخل منها الخطر الحقيقي. كثير من الشباب اليوم لا يخطئون لأنهم أشرار، بل لأنهم لم يتعلموا كيف يختارون بأنفسهم. لم يجرّبوا الوقوع ليتعلموا النهوض، ولم يذوقوا طعم الخسارة ليعرفوا قيمة النصر.
الاهتمام لا يعني أن نرسم لأبنائنا طريقهم، بل أن نُعلّمهم كيف يجدون طريقهم. نوجّه الشاب دون أن نخنقه، نراقبه دون أن نتجسّس عليه، نحميه دون أن نعزله عن الحياة. فقد قال رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: "ما نحل والدٌ ولدا أفضل من أدبٍ حسن"، والأدب الحسن هو أن نزرع في الطفل وعيًا، لا خوفًا، وأن نمنحه أدوات التفكير، لا أوامر التنفيذ، وأن نُشعره أنه قادر على اتخاذ القرار، لا مجرد تابع ينتظر الإشارة.
وأنا هنا لا ألوم الآباء والأمهات، فكل هذا الحرص نابع من الحب، لكن الحب إن لم يُوزن بالعقل قد يتحوّل إلى عبء. تمامًا كما أن الماء سرّ الحياة، لكنه إن زاد عن الحد، أغرق الجذر وخنق الزهر. فلنعلّم أبناءنا أن يتعاملوا مع الحياة، لا أن يختبئوا منها، وأن يواجهوا المواقف بأنفسهم، وأن يخطئوا في حدود المسموح فيتعلموا، لا أن يُكسروا في أخطاءٍ لا شفاء منها. فمن لا يُمنَح فرصة السقوط، لن يعرف أبدًا كيف ينهض.
ولذلك، فإن أبناءنا لا يحتاجون حصونا تحميهم بقدر ما يحتاجون جذورًا تثبتهم، ولا يحتاجون إلى آباءٍ يقرّرون عنهم بقدر ما يحتاجون إلى قدواتٍ تمشي أمامهم وتقول لهم: "أنا أثق بك، جرب، وتعلم، وأنا معك". فبهذه الثقة يولد الوعي، وتنشأ الشخصية السوية التي تعرف كيف تختار وتتحمّل، ويبنى جيلا يمكنه منافسة الأمم. وأختم هذا المقال بكلمة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد – رئيس الدولة – حفظه الله – حيث قال موجها كلامه لشباب الإمارات:"أنتم جيل مهم نريد أن ننافس بكم دول العالم".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة