هيمنة الهوية العالمية على الهويات المحلية
تناول المقال السابق حالة التعليم في العالم العربي قبل نهاية القرن العشرين والدخول في عصر العولمة، حيث كان التعليم منشغلاً بالمعلومات والأفكار، ومتجاهلاً للمهارات والقدرات الأدائية للمتعلمين؛ لذلك كان منتجاً لجيوش من البيروقراطيين قليلي الإبداع، ناقصي المهارات.
وعندما عرفت المؤسسات التعليمية ما قبل الجامعية والجامعية إمكانات وفرص العولمة، وأدركت أن التعليم لا بد أن يمكِّن المتعلمين من إتقان مهارات معينة تجعلهم قادرين على ممارسة الوظائف الجديدة التي خلقتها ثورة الاتصالات والمواصلات، ويتطلبها اقتصاد العولمة.. هنا سيطرت العقلية ذات البعد الواحد، فانقلبت من الضد إلى الضد؛ فتمّ التركيز بصورة كاملة على المهارات على حساب الأفكار والقيم.
وهنا يجب أن نلقي نظرة ولو سريعة على أهم ملامح النموذج التعليمي الأمريكي الذي مثّل أكثر النماذج العالمية جاذبية في عصر العولمة، حتى صار مرادفاً لكلمة العولمة ذاتها، التي أصبحت تعني في جوهرها "الأمركة"، هذا النموذج يركز بصورة أساسية على المهارات الأدائية أكثر من تركيزه على الأفكار أو النظريات أو الفلسفات، فأهم ما يميز التعليم الأمريكي في جميع التخصصات هو أنه تعليم ينصرف بصورة كلية إلى ترسيخ مجموعة من المهارات المطلوبة لسوق العمل، وليس تعليماً يجمع بين الفكرة والمهارة، وإنما الفكرة تعني المهارة، ومن ثم يركز على المهارة ويتجاوز الفكرة.
ولعل أهم عناصر الجاذبية في هذا النموذج أنه يستجيب وبصورة سريعة وواضحة جدا لمتطلبات عمليات النمو الاقتصادي، أو التحديث الإداري، أو التطوير التكنولوجي، ولذلك كان حضور هذا النموذج - الذي أصبح يأخذ صفة العالمية وأصبحت شعوب العالم تطلق عليه مفهوم "العولمة" - طاغياً ومؤثراً ومن الصعب تجاهله، خصوصاً لدى شعوب وحكومات تعيش فترة انكسار وهزيمة حضارية شاملة كالشعوب العربية.
مبادرة قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة في تقديم منهج جديد للتربية الأخلاقية لجميع مراحل التعليم العام نموذج يجب أن تقتدي به الدول العربية جميعاً، وأن تتوسع فيه طبقا لحاجات كل مجتمع والتحديات التي تواجهه.
وبدون إخلال بمتطلبات التحليل العلمي الدقيق لهذا النموذج، يمكن أن نلخص أهم عناصره ومكنوناته في النقاط التالية:
1- هيمنة الهوية العالمية على الهويات المحلية؛ فمع انتقال التعليم في العالم العربي من هيمنة الدولة، وأيديولوجية الحزب أو الطبقة انتقلت تلك الهيمنة إلى القوة الكبرى الوحيدة وهي الولايات المتحدة الأمريكية، فالجامعات الخاصة أو الوطنية تبنت التعليم باللغات الأجنبية: الإنجليزية أو الفرنسية، وأعادت صياغة مناهجها لتنسق مع المتطلبات الأمريكية، بل إن الكثير منها سعى للحصول على الاعتراف من المؤسسات الأمريكية المحلية وكأنه جزء من النظام التعليمي الأمريكي، أو الذي يمارس عمله على الأرض الأمريكية.
2- الواحدية الفكرية والثقافية؛ فعلى الرغم من أن شعار العولمة، وما يتركه من انطباع أن هناك تحاورا لأفكار، وتفاعلا لثقافات، وتلاقيا لحضارات؛ فإن في حقيقة الأمر هذا الشعار يعبّر عن تيار يسير في اتجاه واحد؛ فالغرب بصفة عامة وأمريكا بصفة خاصة هي المصدر لكل شيء، والعالم العربي المستورد أو المتلقي لكل شيء؛ لذلك فقد تم الانتقال بنفس واحدة الرؤية من زمن هيمنة الدولة والحزب والطبقة إلى هيمنة الآخر القادم من وراء البحار، وفي كلتا الحالتين النتيجة واحدة، وهي أن ما يتلقاه المتعلم يعبّر عن وجهة نظر واحدة، وعن فكرة واحدة، وعن نموذج واحد، حتى وإن انتشرت مقولات مثل التفكير الابتكاري والتفكير النقدي، فالنقد يتوجه دائماً للذات والهوية، وليس لحركة العولمة، والتفكير الإبداعي يكون دائماً مقلداً لنمط التفكير الغربي ومساراته.
3- الواقعية المفرطة وتجاهل الأبعاد النظرية الفلسفية؛ فهذا البعد هو جوهر حركة العولمة وهي الأعراق في الواقع والتعامل معه مبتوراً عن سياقيه التاريخي والحضاري، والتجاهل شبه التام للنظريات والفلسفات على أساس أنها تفكير مثالي، وأنها لا تؤدي إلى نتائج مباشرة على عملية التنمية التي تم اختزالها في البُعد الاقتصادي، وتم اختزال البُعد الاقتصادي في الجوانب التكنولوجية، وتم اختزال التكنولوجيا في المنتج الاستهلاكي الترفيهي غالباً. وفي ظل هذه الوضعية أصبحت مخرجات العملية التعليمية في الجامعات تقترب كثيرا من مخرجات المدارس الفنية أو الحرفية، تنتج بشراً ليسوا سوى أدوات في ماكينة الرأسمالية العالمية تذكرنا بأفلام شارلي شابلن.
4- الارتباط الشديد بالاقتصاد العالمي على حساب الاقتصادات المحلية والإقليمية؛ فالتخصصات التي تقدمها الجامعات العربية في مرحلة العولمة أصبحت صورة طبق الأصل لما يتم تقديمه في الجامعات الأمريكية، وأحيانا دون اعتبار لاختلاف السياق، وفي غالب الأحيان لا علاقة لها بالمتطلبات المحلية؛ ففي دول اقتصادها يقوم على النفط، وبيئتها صحراوية، أو تواجهه أزمة مياه مثل مصر وتحتاج إلى تحلية مياه البحر، نجد أن أهم التخصصات الجامعية فيها هي إدارة الأعمال والحاسوب والفنون الجميلة ولا تكاد ترى تخصصاً يركز على الصناعات البترولية، أو زراعة الصحاري، أو تحلية مياه البحر، وفي دول زراعية بالأساس نجد الاهتمام بكليات الزراعة يتضاءل أمام الاهتمام بعلوم الحاسوب وإدارة الأعمال. وعلى الرغم من أهمية هذه التخصصات فإنه لا يجب أن تكون بديلا عن التخصصات التي تكوِّن أجيالا قادرة على تفعيل المزايا النسبية للاقتصادات المحلية والإقليمية.
وفي ظل هذه الوضعية أصبحت نظم التعليم الجامعي في العالم العربي منهمكة بصورة كاملة في تعليم المهارات الفنية والأدائية واللغوية دون الاهتمام بنفس القدر بالمحتوى الفكري والنظري والفلسفي؛ مما سيؤدي على المدى المتوسط والبعيد إلى إنتاج جيل غير قادر على تحقيق التنمية المستقلة، وإنما بارع في أن يكون وكيلا للاقتصاد العالمي، وسوقا له ومروّجا لمنتجاته، ومن ثم فإن هذه الحالة ستؤدي إلى ترسيخ التبعية الاقتصادية والثقافية ومن ثم السياسية؛ مما يؤدي إلى إعادة إنتاج حالة التخلف في صورة جديدة ظاهرها مظاهر تحضر وتقدم، وجوهرها حالة من الضعف الداخلي الذي ينهار مع أقل الأزمات التلقائية أو المتعمدة ولعل تجربة النمو الآسيوية في أواخر التسعينيات من القرن الماضي لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح.
وهنا يثور السؤال: ماذا يعني نظام تعليم يعلي المهارة على الفكرة والقيمة؟
إن الإجابة وبصورة مباشرة وبدون تنظير هي بسيطة جداً، إن هذا النموذج سيؤدي إلى إنتاج إنسان محايد، قابل للاستخدام والتوظيف في جميع الاتجاهات، يعيش في حالة ميوعة ثقافية وحضارية، فاقد لمعنى الهوية، ومستبدلها بهوية عالمية غير محددة، لا يعرف عن تراثه الوطني بمقدار ما يعرف عن التراث الأوروبي أو الأمريكي، هذا الإنسان قد يكون منتجا بصورة جيده؛ لأنه في جوهره يملك المهارات، ولكنه سينتج لمن يحقق له حاجاته المادية، ومن ثم فإن مفاهيم مثل الوطنية والانتماء والهوية والثقافة والذات الحضارية والأمن القومي والمصلحة الوطنية ستكون عنده مفاهيم فارغة في مضمونها، معيقة للتقدم بل رجعية ومتخلفة، وذلك لأنه تمت تنشئته في هذا النظام التعليمي الذي يركز بصورة أساسية على المهارة ويتجاوز الفكر أو القيم.
والأدهى والأمر، أن هؤلاء هم أول مَن يتم تجنيدهم للجماعات الإرهابية أو العنيفة أو المتطرفة، ولننظر إلى قيادات تنظيم القاعدة، ومعها تنظيم الإخوان نجد أنهم من ذوي التخصصات المهارية من خريجي الطب والهندسة الذين ركز تعليمهم الجامعي فقط على المهارات والعلوم الطبيعية، ولم يحصلوا على قسطٍ مناسبٍ من العلوم الإنسانية أو الاجتماعية. أصحاب المهارات هؤلاء هم الأكثر عرضة للتجنيد في تلك المنظمات الخارجة عن القانون، لأنها تملأ الفراغ الذي تركته النظم التعليمية الواحدية أو العوراء في عقولهم.
وخلاصة القول، فإن نظم التعليم الجامعي في العالم العربي تحتاج إلى وقفة مراجعة سريعة قبل فوات الأوان من أجل تحقيق ذلك التوازن المطلوب بين تعليم المهارات وتعليم الأفكار للخروج من حالة الواحدية والحدية التي تتنقل من الفكر إلى المهارة أو العكس دون التفكير في الجمع بينهما، هذا الجمع الذي سيمكننا من الاستفادة من فرص العولمة دون أن نفقد ذاتنا وحضارتنا وثقافتنا ومصالحنا القومية والوطنية، ولعل مبادرة قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة في تقديم منهج جديد للتربية الأخلاقية لجميع مراحل التعليم العام نموذج يجب أن تقتدي به الدول العربية جميعاً، وأن تتوسع فيه طبقا لحاجات كل مجتمع والتحديات التي تواجهه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة