بناء الإنسان القادر على تحقيق كمالاته الإنسانية: الفكرية والنفسية والسلوكية من خلال إطلاق وتهذيب طاقاته
منذ الصدمة الكبرى مع الحضارة الغربية أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر حين اكتشفت الشعوب العربية مقدار تخلفها عن ركب الحضارة الإنسانية، وقدر ضعفها وهزال أدواتها ووسائلها مقارنة بوسائل الغزاة الفرنسيين الذين ما كان يمكن هزيمتهم وطردهم إلا بتضحيات جسام تعوّض التخلف التكنولوجي والعلمي، والفارق الهائل بين الغرب الأوروبي، وبين المشرق العربي.
منذ تلك اللحظة التاريخية شهدت نظم التعليم في العالم العربي ثلاثة تحولات كبرى، ارتبطت جميعها بمتغير خارجي قادم من الغرب الأوروبي وتوابعه الحضارية، هذه التحولات أحدثت هزّة نوعية في النظم التعليمية السائدة ودفعت – جبراً أو اختياراً- إلى تبني نظم أخرى، وأفرزت ظواهر ومخرجات تعليمية امتدت آثارها ونتائجها وتداعياتها عقوداً بل قروناً، بل وتشابكت تلك التداعيات والآثار، فلا يكاد أن يستقر نظام تعليمي معين إلا وتزلزله صدمة أخرى.
يمكن القول دون مبالغة إنه على مدى قرنين من الزمان كانت سياسات التعليم في العالم العربي وما يترتب عليها من نظم تعليمية ومناهج وتخصصات، تتسم بأنها سياسات ردود أفعال نابعة من ضغوط وقتية داخلية وخارجية، ولم تكن في معظمها نابعة من استراتيجيات بعيدة المدى تحددها فلسفة التعليم ومتطلباته .
وقد تمثلت الصدمة الأولى في الحملة الفرنسية وما تلاها من تحول جذري في النظم التعليمية في عهد محمد علي باشا، تمثل في التركيز على البعثات الأجنبية، وإنشاء المدارس التي تهتم بالتعليم الفني والتكنولوجي.
وكانت الصدمة الثانية ممثلة في الاستعمار الأوروبي للعالم العربي ابتداءً من الجزائر 1830، وما صاحبه من نظم تعليمية تعتمد اللغات الأجنبية، وتهمش اللغة العربية، والثقافة الإسلامية، وتؤدي إلى شرخ المجتمع بين حداثيين متأوربين، وتقليديين مهمشين، وكانت الصدمة الثالثة ممثلة في ثورة المعلومات التي فرضتها التطورات التكنولوجية في وسائل الاتصال والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات.
وسوف يتم تحليل المرحلة الأخيرة، وذلك من خلال التركيز على جانب من أهم جوانبها، وهو المتعلق بمحتوى العملية التعليمية، وعلاقته بمخرجاتها ونتائجها ومدى إمكانية تحقيق نقله حقيقية في المنظومة التعليمية الحديثة تستفيد من إمكانيات عصر ثورة المعلومات دون أن يكون الثمن هو الهوية والإنسان والذات الحضارية والمستقبل، وسوف نعالج هذا الموضوع من خلال المحاور التالية:
أولا: الغايات العليا للتعليم
تُجمع الأدبيات على أن الغاية القصوى للتعليم هي تحقيق أهداف ثلاثة هي:
1- بناء الإنسان القادر على تحقيق كمالاته الإنسانية: الفكرية والنفسية والسلوكية من خلال إطلاق وتهذيب طاقاته، وصقل خبراته وتجاربه، ووضعه على طريق التعلم الدائم والمستمر؛ تعلما ذاتيا بعد أن مكنته المدرسة والجامعة من اكتساب المهارات المعرفية والأدائية، وزودته بمفاتيح المعرفة، وطرق الوصول، ودرّبته على ممارسة المهارات الإنسانية والعقلية العليا، كالتفكير الناقد والإبداعي، والقدرة على اتخاذ القرار في مواقف متعددة ومتنوعة، والقدرة على حل المشكلات، وابتكار حلول جديدة، والقدرة على العمل الجماعي، والتفاعل مع الآخرين في سياقات مختلفة تفاعلا حضاريا راقيا.. كل تلك القدرات العقلية والفكرية والنفسية والأدائية هي أولى نجاحات التعليم التي يجب أن تحققها في خريجي الجامعات، وبدون تحقيق تلك الغاية لن تكون الجامعة جامعة وإن أخذت المسمى واحتلت المبنى.
2- بناء المواطن الحامل لهوية وطنه وثقافته، والقادر على التعاطي مع المحيط الكوني متعدد الثقافات والأفكار والأديان والأعراق تعاطياً إيجابياً؛ لا يفقد فيه هويته ولا يتخلى عن ثقافته، وفي الوقت نفسه يكون قادراً على الأخذ والعطاء، والتفاعل الإيجابي مع كل الأفكار والقيم الموجودة في الثقافات الأخرى، وذلك من خلال عملية جدلية مستمرة تدرك الذات وتحافظ عليها وتستفيد مما لدى الآخر دون أن تذوب فيه، كذلك فإن عملية بناء المواطن تستوجب غرس قيم الانتماء والولاء للوطن، وهي عملية نفسية لا تحتاج إلى تبرير عقلاني رشيد؛ فالإنسان بطبعه ينتمي لجماعة معينة والمدرسة والجامعة لا بد أن تدركا خصائص هذه الجماعة، وترسخا هذه الخصائص في نفسية المتعلمين وتضمنا أن تكون مخرجاتهما التعليمية هادفة إلى تكوين هذا الإنسان المنتمي لوطن وجماعة معينة.
3- تكوين صاحب المهنة القادر على ممارستها بأفضل ما يكون، والملم بمعطياتها ومتطلباتها والمتابع، لتطوراتها بصورة تمكنه من تطوير قدراته، وتحسين أدائه بصورة مستمرة، وبغض النظر عن طبيعة هذه المهمة، وخصائصها فإن المدرسة والجامعة ينبغي أن تكونا مركزين لتكوين وتدريب وتأهيل طلابهما ليجيدوا هذه المهمة بصورة تسمح لهم بالتنافس في سوق العمل، وتجعل منهم طاقة قادرة على البناء والعطاء والتطوير والتنمية المستمرة والمستدامة.
وانطلاقا من هذه الأهداف أو الغايات الثلاث تتبلور رسالة المدرسة والجامعة وتتشكل مخرجاتها التعليمية في صورة طاقات بشرية تجمع بين عنصرين أساسيين؛ هما، أولا: الأفكار والقيم والمعارف اللازمة لتكوين إنسان ينتمي إلى وطن وهوية وثقافة ومجتمع، ويتفاعل مع العالم المحيط به تفاعلا إيجابيا من موقع الثقة بالذات، ويدرك خصائص هويته وثقافته ويسعى لتقويتها ويتفاعل مع الآخرين تفاعلا إيجابيا تحكمه قيم الاعتزاز بالذات والاحترام للآخر وتقوده المنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة وقواعد التعايش والتعاون والتفاعل الخلاق لما فيه خير الإنسانية.
ثانيا: المهارات العلمية والفنية والأدائية واللغوية اللازمة لهذا الإنسان في حياته ووظيفته وحراكه البشري وتفاعله الإنساني، وهذه المهارات المتعددة المتنوعة هي التي تعطي خريج الجامعة صفته هذه، وبدونها لا يكون جامعيا مهما كان اسم الشهادة التي يحملها، هذه المهارات المتنوعة المتعددة من القدرة على القيادة واتخاذ القرار، إلى مهارات استخدام الأدوات والآلات والوسائل المتعددة اللازمة لكل مهنة على حدة.
هذه الثنائية من الأفكار والمهارات أو من القيم والسلوكيات الأدائية هي جوهر العملية التعليمية في المدرسة والجامعة، وإن لم تتحقق فإن التعليم يفقد صفته هذه، وإذا تحقق واحد منها دون الآخر أو تحقق كلاهما بصورة غير متوازنة يكون التعليم ناقصاً أو أحادي الجانب، ولم يحقق غايته وأهدافه.
ثانياً: الاهتمام بالفكرة على حساب المهارة في التعليم العربي قبل عصر العولمة .
يمكن القول دون مبالغة إنه على مدى قرنين من الزمان كانت سياسات التعليم في العالم العربي وما يترتب عليها من نظم تعليمية ومناهج وتخصصات تتسم بأنها سياسات ردود أفعال نابعة من ضغوط وقتية داخلية وخارجية، ولم تكن في معظمها نابعة من استراتيجيات بعيدة المدى تحددها فلسفة التعليم ومتطلباته، فقد غلب على نظم التعليم في العالم العربي أنها وليدة ضغوط مستمرة سواء من النظم السياسية العربية أو من القوى الدولية، وأن هذه النظم التعليمية لم تنمُ نمواً ذاتيا طبيعيا تتاح لها الفرصة فيه أن تطور ذاتها، وأن تنضج تجربتها وأن تحقق النمو التلقائي للنظم والمؤسسات.
فالتغيير والتبديل يتم بصورة دائمة؛ بل أحيانا يتغير النظام التعليمي بتغيير وزير التعليم أو رئيس الجامعة أو عميد الكلية، فالجميع يريد أن تكون له بصمته وأن يُنسب الفضل إليه، وأن يبدأ التاريخ من عهد سيادته، هذه الحالة غير الطبيعية جعلت نظم التعليم في العالم العربي نظما مسيّسة وليست مهنية أو فنية، إذا نظرنا إلى حال التعليم الجامعي في العالم العربي قبل مرحلة العولمة نجد أنه قد غلبت عليه الأفكار والموضوعات والقضايا النظرية، وتضاءل فيه موقع المهارات العقلية والأدائية والفنية واللغوية وذلك للأسباب التالية:
1- هيمنة إيديولوجية النخبة السياسية على النظام التعليمي، وتحول الجامعة إلى مؤسسات حزبية لتلقين عقيدة النخبة بمعنى تحول التعليم وطرائف التدريس والقائمين بالعملية التعليمية إلى وسائل لترسيخ منظومة فكرية معينة بغض النظر عن عمقها وجدواها وملاءمتها.
2- أصبحت الجامعة ميداناً لصراع الإيديولوجيات، وليست بيئة لمقارعة الأفكار والحجج والبراهين، وقد أسهم ذلك في تحول العملية التعليمية إلى نسق معرفي مغلق تتصارع فيه أفكار دوجماتية، لا تبني عقلا ولا تكسب مهارة ولا تسهم في تكوين إنسان قادر على التعامل مع الواقع بفاعلية واقتدار، وإنما تُخرج موظفا بيروقراطيا، أو معارضا "دوجماتي" كلاهما لا يرى للحقيقة إلا وجهاً واحداً، ولا يتسع تفكيره لغير أفكاره، ولا يملك من المهارات العقلية إلا الحفظ.
3- أدت هذه الحالة إلى تحول الجامعة على مدى الحركة التاريخية إلى "برج عاجي" يتعامل مع الفلسفات والنظريات والأفكار المجردة، ويبتعد كثيراً عن الواقع؛ لأن جلَّ العملية التعليمية يركز على أفكار وأطروحات متعارضة أو متناقضة يتعامل معها بمنطق القبول والرفض، وليس التحليل والتعليل والتفسير والإقناع أو الدحض.
4- في حالة تجريدية تنظيرية تصارعية يكون من المستبعد أن ترتبط مخرجات العملية التعليمية بخطط التنمية، فقد ظلت العملية التعليمية تسير في طريقها ولا تلقي بالاً لخطط التنمية التي يتم الإعلان عنها لأغراض دعائية في بعض الدول، أو لا يتم الإعلان عنها في البعض الآخر، فكان من الطبيعي أن تكون مخرجات التعليم الجامعي بعيدة عن حاجة المجتمع، ولذلك كان أيضا من الطبيعي أن ترتفع نسبة البطالة الفعلية بين خريجي الجامعات، وأن تقوم الدول العربية بتوظيف نسبة أكبر من الخريجين كنوع من رعاية الدولة للمواطنين، مما يختلق بطالة مقنعة أكثر خطورة من البطالة الفعلية.
أدى كل ذلك إلى حالة من الضعف الشديد في المهارات العقلية والفنية والأدائية واللغوية عند طلاب الجامعات وخريجيها، ومن ثم كانت العملية التعليمية في مجملها أداة لإعادة إنتاج التخلف، وليست وسيلة لتحقيق التنمية والتقدم، وبهذا تراجع مستوى الجامعات وتضخمت أعداد الطلاب فيها، وتدنى مستوى البحث العلمي فيها، وفقدت إلى حدٍ كبيرٍ دورها في المجتمع، بل وفقدت الكثير من هيبتها وأصبحت موضوعاً للنقد والسخرية في وسائل الإعلام وفي الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية، وقد لا يكون للعلم والتعليم مكانته ودوره وهيبته، وهذا ما حدث في العالم العربي في أواخر القرن العشرين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة