لطالما ارتبط التعليم العالي بالنموذج التقليدي القائم على التلقين، حيث يؤدي الأستاذ دور الملقن والطالب دور المتلقي السلبي.
لكن دخول الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في صورته التوليدية القادرة على إنتاج النصوص والإجابات الفورية، أعاد طرح أسئلة جوهرية حول جدوى هذا النموذج وقدرته على الاستمرار.
إذ لم يعد الطالب بحاجة إلى الأستاذ كي يحصل على المعلومة، فبوساطة الأدوات الذكية صار الوصول إلى المعرفة متاحًا في أي وقت ومن أي مكان.
هذا التحول يفرض على الجامعات إعادة التفكير في أدوارها، لتتحول من مجرد ناقل للعلم إلى منظم وموجه للتجربة التعليمية.
أحد أبرز تجليات التحول يتمثل في أساليب التقييم. الامتحانات التقليدية لم تعد قادرة على قياس القدرات الحقيقية للطلاب، خصوصًا مع انتشار أدوات قادرة على إنجاز الواجبات أو كتابة المقالات.
أمام هذا الواقع، يصبح من الضروري اعتماد طرق تقييم ديناميكية، تتابع تطور الطالب بشكل مستمر، وتقدّم تغذية راجعة فورية تساعده على تحسين أدائه.
هذا النوع من التقييم يقيس العملية التعليمية ذاتها، بما في ذلك التفكير النقدي والإبداع وحل المشكلات، بدل الاكتفاء بقياس النتائج النهائية.
الذكاء الاصطناعي يشجع أيضًا على تبني نماذج تعليمية تضع الطالب في مركز العملية، عبر توفير محتوى مخصص يتماشى مع اهتماماته وإيقاعه الخاص.
لم يعد مقبولًا أن يتلقى جميع الطلاب المنهج نفسه بالطريقة ذاتها. بفضل التقنية، يمكن تصميم تجارب تعليمية فردية تراعي تنوع القدرات والحاجات، ما يزيد من دافعية الطلاب وانخراطهم.
هذا التحول يجسد مبدأ التعليم المتمركز حول الطالب، الذي طالما دعت إليه النظريات التربوية الحديثة.
أما دور المعلم، فقد تغير جذريًا. لم يعد المصدر الوحيد للمعلومات، بل صار موجّهًا ومرشدًا يساعد الطالب على التعامل الواعي مع الأدوات الرقمية.
وظيفته الأساسية اليوم هي تعزيز الحس النقدي وتمكين الطلاب من التمييز بين المعرفة الموثوقة والزائفة، وتحفيزهم على التفكير المستقل.
بهذا المعنى، يتحول الأستاذ من سلطة معرفية مطلقة إلى ميسر يفتح أمام طلابه فضاءات للتجريب والإبداع.
لكن هذه التحولات تطرح تحديات حقيقية. فالاعتماد المفرط على الأدوات الذكية قد يؤدي إلى تراجع مهارات أساسية مثل الكتابة الأكاديمية أو الحفظ أو التفكير المستقل.
وإذا لم يُصمم المنهج بعناية، قد يتحول الطالب إلى مجرد مستهلك لنتائج جاهزة من دون وعي بطرق إنتاجها. كما أن التحول من نموذج التلقين إلى التفاعل يتطلب إعادة تكوين للأساتذة، إذ قد يجدون صعوبة في تبني أدوار جديدة لم يعتادوا عليها.
إضافة إلى ذلك، يحتاج التعليم التفاعلي إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية، مثل المنصات القوية وأجهزة الحوسبة الحديثة وشبكات الاتصال السريعة.
من دون هذه المقومات، ستظل شعارات التحول البيداغوجي حبرًا على ورق. وهنا يظهر خطر الفجوة الرقمية، التي قد تتحول إلى فجوة تعليمية بين الجامعات القادرة على الاستثمار في التقنية وتلك العاجزة عنه.
ورغم هذه التحديات، فإن الاتجاه العام يشير إلى أن مستقبل التعليم العالي سيكون أكثر تفاعلية وانفتاحًا بفضل الذكاء الاصطناعي.
المناهج ستصبح ديناميكية قابلة للتعديل، والتقييم عملية مستمرة، والمعلم مرشدًا لا ملقنًا.
في النهاية، لا يلغي الذكاء الاصطناعي دور الجامعة، بل يدفعها إلى إعادة اختراع نفسها لتصبح فضاءً للتجريب والنقد والإبداع. وهكذا ينتهي عصر التلقين، ليبدأ عصر التعليم التفاعلي الذي يعكس روح العصر الرقمي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة