ربما تتجه خريطة الحرب في السودان نحو طورٍ أكثر عتمة، إذ يلوح في الأفق كابوسٌ جيوسياسيٌّ جديد ينذر بواقعٍ أشدّ قتامةً من فوضى السلاح والدم التي تخنق البلاد.
فتموضع الحوثيين المحتمل على السواحل السودانية المطلة على البحر الأحمر، كما أوردت تقارير متعددة، لا يبدو حدثاً محلياً معزولاً، بل حلقةٌ متقدمة في مشروعٍ إقليميٍّ متشابك تتداخل خيوطه بين الحوثيين والحرس الثوري الإيراني، وتمتد إلى المليشيات والحركات الإسلامية التي أعادت تنظيم صفوفها تحت مظلة بورتسودان، حيث عادت الحركة الإسلامية السودانية إلى الواجهة من بوابة الجيش.
إنّ هذا التمدد لا يهدد خطوط الملاحة في البحر الأحمر فحسب، بل يفتح الباب أمام تحوّلٍ استراتيجي بالغ الخطورة، إذ يشكّل ورقة ضغطٍ جيوسياسية تمسّ صميم الأمن الاقتصادي العالمي، وتعيد رسم خرائط النفوذ في واحدٍ من أكثر الممرات البحرية حساسيةً وتأثيراً في معادلات الطاقة والتجارة الدولية.
تجددت الهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر، في تطورٍ يعكس تصعيداً مقلقاً للقدرات اللوجستية للجماعة المدعومة من إيران. وقد أثار الهجوم الذي استهدف ناقلة النفط “سكارليت راي” مطلع سبتمبر الماضي موجةً جديدة من المخاوف الدولية بشأن أمن الملاحة في واحدٍ من أهم الممرات البحرية في العالم.
ورغم أن الحوثيين سبق أن أعلنوا مراراً قدرتهم على استهداف السفن في شمال البحر الأحمر، فإن الهجمات الأخيرة، بحسب تقرير مجلة "ميدل إيست فورم"، كشفت عن نطاقٍ عملياتي غير مسبوق، إذ وصلت الضربات إلى مسافة تقارب 600 ميل من السواحل اليمنية. كما أن موقع الحادثة - على بُعد نحو 160 ميلاً من الساحل السوداني - أثار تساؤلاتٍ إضافية حول مصدر انطلاق تلك الهجمات وطبيعتها.
وتطرح هذه المعطيات فرضيةً جديدة مفادها أن الحوثيين ربما وسّعوا نطاق عملياتهم باستخدام قواعد أو منصّات انطلاق داخل السواحل السودانية، سواء عبر الطائرات المسيّرة أو الصواريخ أو الزوارق السريعة. وإذا صحّت هذه الفرضية التي لها ما يعززها على الأرض، فإنها تمثل تحولاً خطيراً في خريطة التهديد البحري في البحر الأحمر، وتؤشر إلى أن الصراع اليمني بدأ يتداخل بوضوح مع الحرب في السودان، ما قد ينذر بمرحلةٍ أكثر تعقيداً في أمن المنطقة والملاحة الدولية.
ومع الوجود العسكري الإيراني في السودان، ونقل منظومات قتالية لصالح الجيش السوداني، مثل الأسلحة والمسيرات الإيرانية (مهاجر-6 وأبابيل) وأنظمة الرادار وتواجد خبراء عسكريين في بورتسودان، يتبدّى أمامنا مشهدٌ واحد: تحالفٌ عمليّ بين طهران وقوى الإسلام السياسي في الخرطوم يعزّز المشروع الحوثي ويمنحه قاعدةً خلفيةً جديدة، كما يمنح الجماعات المتطرفة مناخاً آمناً للتنسيق والتمويل والتصنيع.
ولذا لا تكفي الإدانة الكلامية أو العقوبات الجزئية المستخدَمة كأداة ردع ضد الإسلاميين السودانيين الذين يسيطرون على قيادة الجيش. فالمطلوب الآن هو نهجٌ عالمي حازم متعدد الأبعاد: حظر الحركة الإسلامية السودانية وجميع تنظيمات الشبكة الإخوانية المسلحة في السودان، وقطع خطوط تمويلها السياسي والعسكري، وتفعيل آليات عقابية رادعة تستهدف الموردين والوسطاء، وملاحقة شبكة التهريب وقطع أوصالها البحرية والجوية.
إلى جانب ذلك، لا بد من دعمٍ دولي جاد لفرض سيادة مؤسسات الدولة المدنية في السودان، بإعادة الحكم المدني الذي انقلب عليه الإسلاميون عبر الجيش، ثم إطلاق برامج لمعالجة جذور التطرف فكرياً واجتماعياً، وتجفيف منابع تجنيد الميليشيات العقائدية والجهوية، وتأسيس جيشٍ قوميٍّ مهنيٍّ موحدٍ بعقيدة وطنية خالصة لا أيديولوجية.
إنّ معركة استقرار البحر الأحمر ليست معركةً سودانيةً بحريةً داخلية؛ بل هي صراعٌ على مستقبل النظام الدولي، وعلى قدرة المجتمع الدولي على حماية التجارة والأمن والسلم العالميين من تحالفاتٍ خطيرة ظلت تعمل في الظل. والعالم الآن بين خيارين: إما أن يواجه عودة “إخوان السودان” والتحالف الإيراني معهم بكل جديةٍ وحزم، أو أن ينتظر تحوّل البحر الأحمر إلى مسرحٍ كبيرٍ للفوضى تتهاوى بسببه دولٌ بأكملها.
العالم اليوم مدعوّ إلى أن يقول كلمته بكل حسمٍ قبل أن يبتلع الظلام ما تبقّى من نور. تفكيك الجماعات الإخوانية التي تطوّق الجيش السوداني وتسيطر عليه وتجفيف منابعها لم يعد خياراً سياسياً، بل ضرورةً لحماية السودان وأمن العالم؛ فبغير كبح هذا السرطان الفكري والعسكري المدمّر سيظلّ سودان النيلين والبحر الأحمر معبراً للفوضى ومصدراً يهدّد سلام البشرية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة