الأمان والأمل هما روح المجتمعات، ومحفز الهمم، ومحرك الشعوب، والدافع للتنمية والنهوض، واقتحام الصعاب، هما الحافز الأساسي للعمل ولبذل الجهد وتحمل الصعاب، وبدونهما تخمد حركة الإنسان
الأمان والأمل هما روح المجتمعات، ومحفز الهمم، ومحرك الشعوب، والدافع للتنمية والنهوض، واقتحام الصعاب، هما الحافز الأساسي للعمل ولبذل الجهد وتحمل الصعاب، وبدونهما تخمد حركة الإنسان، ويركد المجتمع، وتتباطأ أو تتوقف الحياة، الشعور بالأمان في الحاضر، والأمل في المستقبل، مثل الماء والهواء للمجتمعات، ضرورات لا يتحقق الوجود بغيرهما، لذلك تحرص الدول والمجتمعات على ضمان تحقيقهما، وتسن من التشريعات والقوانين ما يحافظ على الأمان والأمل.. فلا اقتصاد بدون استقرار الإحساس بالأمان في نفوس البشر، ولا تقدم بدون نور الأمل، وإذا فُقِد أحدهما، أو كلاهما، فسينهار الاقتصاد، وتخمد طاقة الحياة في المجتمع، وتفشل الدولة.
هؤلاء جميعاً غاية جهدهم تنكيد حياة الشعب، وإغراقه بكل ما هو متاح من المشاكل والهموم، وتضخيم تلك المشاكل، والنفخ فيها حتى تصير جبلاً لا أمل في زحزحته
منذ ثلاثين عاما ذهبت إلى الولايات المتحدة في بعثة دراسية، حينها سمعت كلمة “Fearmonger” ولم أفهم معناها، وسألت من يعلمني، فحاول الشرح، ولم يستطع أن يأخذني إلى عمق الكلمة، ودلالتها الحقيقية، ونظرا لاهتمامي المبكر بالمفاهيم والألفاظ، وعشقي للغة؛ لم يشبعني المعنى السطحي الذي سمعته، وجادلت كثيراً إلى أن ضرب لي من يحاورني مثالا واقعيا لمن يطلق عليهم هذا اللفظ، وهنا عرفت المعنى الحقيقي للكلمة، وهو "بياعين الخوف" ليس في محلاتهم، أو أسواقهم، أي أولئك الباعة الجائلون الذين يطوفون الشوارع والحارات ينادون على بضاعتهم بكلمات منمقة، أو أهازيج وأشعار جاذبة، ومواويل وأغانٍ ترغِّب المشتري في البضاعة، وتدفعه للشراء حتى وإن كان لا يريد، أو لا يحتاج.
"بياعين الخوف" يملؤون الفضاء الإلكتروني والقنوات الفضائية القادمة من وراء الحدود، يطلون على أهلها من جميع النوافذ، يخرجون من جميع القنوات، ينادون طوال الليل والنهار على بضاعتهم بحرفية واقتدار، شطار جداً في فنون التسويق، والإعلان والبيع، لو كانت بضاعتهم غير هذه البضاعة لكانت مصر أقوى كثيراً مما هي عليه الآن، لهم حيل السحرة والبهلوانات ومكرهم، يشدونك إلى بضاعتهم سواء بالترغيب أو بالاستفزاز، المهم سوف تشتري منهم في النهاية، ولا تغادرهم دون أن تفعل، يبيعون كل أنواع ومستويات الخوف، يحولون أية مشكلة صغيرة، وعابرة إلى أزمة عميقة وعامة وطاحنة، المهم أنهم يجدون ما يبيعونه كل يوم، تجدهم يهللون ويفرحون في المصائب، هم مثل الحانوتية الذين تبهجهم أخبار الموت لأنها مصدر رزقهم، و"بياعين الخوف" كذلك يفرحون بالأزمات والمصائب، والمشاكل لأنها مصدر وجودهم.
هذه لحظة تحتاج فيها مصر إلى الأمل، والطمأنينة بعد سنوات من التوترات السياسية، وما صاحبها من افتقاد الأمن، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، في هذه اللحظة الإنسان المصري متعطش إلى بارقة أمل بأن غداً أفضل من اليوم، وأن الأزمات التي مرت عليه في طريقها إلى الانتهاء، وأن مشاكل اليوم سوف تنتهي في الغد، وأن "بكره أحلى من النهاردة"، ومش مهم بكره يجي، المهم أن يكون هناك أمل يحقق السعادة، وينزع الهم من القلب، وكفاه غما على ما فات، فلا ينبغي أن يجتمع معه همٌ بما هو آت.
المصري بسيط، يجذبه الأمل في المستقبل، رغم صعوبة الواقع.. أليس هو الذي كان يضع كل مدخراته وأفضل ما لديه في قبره انتظارا للحياة الأخرى وعودة الروح إلى الجسد المحنط في عالم الخلود؟ وأليس هو الذي يترك الآن كل ما جمع في حياته لأولاده، وهم خلوده، وحياته الأخرى؟ المصري متعلق بطبيعته منذ الفراعنة بالمستقبل، يسعد في لحظته الحاضرة، إذا كان المستقبل مشرقاً في عينه، وتصبح الحياة سوداء حالكة إذا فقد الأمل في بكرة، بغض النظر عن واقعه.
هذا المصري البسيط تسلط عليه جهاز إعلامي مكون من مجموعة من الفضائيات الممولة من دول معادية، والتي تبث من دول معادية، تسلط عليه كذلك "فيسبوك" الذي تحول إلى فوضى عارمة، يتساوى فيه الجاهل الذي بالكاد يستطيع أن يكتب جملة واحدة مع الخبير المتخصص، الجميع يدلي بدلوه، والجميع متساوون، كله كلام يساوي كلاما، فلا قيمة لعلم ولا لخبرة ولا لتخصص.
هؤلاء جميعاً غاية جهدهم تنكيد حياة الشعب، وإغراقه بكل ما هو متاح من المشاكل والهموم، وتضخيم تلك المشاكل، والنفخ فيها حتى تصير جبلاً لا أمل في زحزحته، وما إن تظهر أزمة، ولو طارئة، إلا ويجعل منها إعلام البوم والغربان كارثة أكثر بشاعة من زلزال مدمر، أو طاعون مهلك، رغم أن الأمر ليس كذلك.
وإذا لم تكن هناك مشاكل تكفي لتحقيق الهدف، فالإشاعات والأكاذيب التي تهدد مصالح البسطاء هي البديل السريع الجاهز في كل وقت وحين، أو البحث عن مواطن الخلل في الدولة وجهازها الحكومي، والإداري، وتضخيمه بل من تقديم اقتراحات لإصلاحه، المهم أن يغرقوا المصري البسيط في حالة سوداوية، تزيد واقعه البائس المرير بشاعة، أولئك هم "بياعين الخوف" يعيشون على أوجاع الناس دون تقديم حلول لها.
النقد البنّاء والسعي للإصلاح يختلفان جذريا عن تجارة الخوف، على الرغم من أنهما يتناولان موضوعاً واحداً، ويكشفان حقيقةً واحدةً، ويضعان اليد على مشكلة واحدة، ولكنهما يختلفان في الغاية؛ فالنقد البناء يهدف إلى إصلاح الحال والحفاظ على الأمل، وبياع الخوف يهدف إلى سرقة الأمل وتعميق الخلل.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة