يعيش على أرض الإمارات نحو مئتي جنسية، وبعدد ثمانية مليون إنسان، بمختلف أديانهم وقومياتهم
إنها مهمة عسيرة، أن تجمع على أرض صغيرة العشرات من القوميات والأديان والمذاهب، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة، ولا يدرك قوة النموذج الإماراتي الجديد، في المنطقة، إلا مَن تمعّن في هذا النموذج، ونظر في التنوع السكاني الهائل. تحدث عن ذلك رئيس جامعة الإمارات وعضو المجلس التنفيذي في أبوظبي علي راشد النعيمي، في محاضرته التي عقدها مجلس “محمد خلف” الثقافي، مشيراً إلى أن غير المنصفين يتعاملون مع هذه المجتمعات بذكرى ذلك الماضي، والذي لا يخجل منه الإماراتي نفسه، لأن ما تحقق على أنقاض ذلك الماضي أصبح نموذجاً دولياً، ولم تتحقق هذه المنزلة إلا بإدارة ناجحة لهذا التنوع الهائل.
يعيش على أرض الإمارات نحو مئتي جنسية، وبعدد ثمانية ملايين إنسان، بمختلف أديانهم وقومياتهم ومذاهبهم وألوانهم وأعراقهم، فكم يحتاج هذا الوجود البشري المتنوع إلى إدارة وحماية للحقوق الاجتماعية والإنسانية، كي يعملوا وينتجوا ويتعارفوا؟، فحسب وزير التسامح الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك “الله خلق الناس ليتعارفوا لا ليتعاركوا”!
لا يعرف ويُقدّر نموذج الإنجاز الإماراتي بجعل التنوع قوة إلا مَن عاش أو زار الإمارات، وأدرك ما كانت عليه وما آلت إليه، وأدرك أن البشر هنا، على مختلف تنوعاتهم، تضبطهم قوانين أخذت طريقها لتصبح أعرافاً راسخة في الثقافة الاجتماعية
يتعلق الأمر، قبل كلّ شيء، بطبيعة المجتمع الإماراتي وأعرافه، فالبداوة لا تخلو من قيم، إن وجدت مَن ينمّيها ويُكرّس فيها التسامح، تحولت إلى وسط جاذب، وهذا ما التفت إليه مؤسس الإمارات الشيخ زايد بن سلطان "طيب الله ثراه"، فقد تجاوز مبكراً ما يعرقل التنوع، ومعاملة الناس على أساس الإنسانية، وليس على شيء آخر، هذا ما شهد به الرحالة ويلفريد ثيسيجر، يوم كان يتردد عليه يوم كان حاكماً في العين.
إنه هذا فعل الدولة، فإذا علمنا أن “الناس على دين ملوكهم”، أو مثلما قالها ابن خلدون “الناس على دين الملك”، يتضح لنا جيداً دور الحاكم في إدارة التنوع، بإصدار القوانين الضامنة لهذا الوجود البشري، كلّ يعمل في مجاله، ويصلي بصلاته ويعتقد بمعتقده، وتقف حدود حريته عند حدود حريات الآخرين، وهذا يتطلب مَساند مهمة، لتحويل التنوع إلى مصدر قوة لا مصدر تشويش.
أول هذه المساند سن قانون يُجرّم أي تعدٍّ ديني أو مذهبي، أو طائفي بشكل عام، سواء كان بالقومية أو الدين أو اللون، أي تطبيق حرفي وعملي لما جاء في القرآن “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”، والتعارف هذا غير مشروط بمذهب أو كتلة بشرية دون آخر. يأتي بعد ذلك قانون يُجرّم التحرش، لأن وجود النساء في الحياة الرسمية والاجتماعية يمثل جزءاً من التنوع، وقد طُبّق القانونان تطبيقاً صارماً.
استندت الإمارات في إدارتها للتنوع بالتأكيد على التعايش والتسامح، عبر قوانين واضحة وصريحة، وشديدة في تنفيذها، بلا تمييز، ويأتي في مقدمتها لائحة قانون نبذ الكراهية، فالقانون يُحاسب على أي إشارة بكراهية دينية أو مذهبية أو اجتماعية إلى الآخر المختلف، باللون أو القومية أو أي مميز اجتماعي آخر، وأن أصحاب المئتي جنسية، وما فيها من اختلاف اجتماعي بالتقاليد والأعراف، أخذوا يشعرون بأن وجودهم بكرامة مكفول بقانون.
قد يسأل سائل، لماذا فشلت دول لها عمق تاريخي وحضاري، وصاحبة ريادة في الثقافة والحضارة بشكل عام، وها هي تتحول إلى بؤر للنزاع بين الهويات، الدينية أو القومية أو المذهبية، مثلما هو الحال في العراق وسوريا ولبنان وغيرها من بلدان الشرق الأوسط.
بينما نجحت الإمارات، وهي بلد حديث التشكيل، لا يمتلك المقومات التي تمتلكها تلك البلدان، يعود ذلك بشكل ما إلى الفشل في إدارة التنوع الاجتماعي، وبدلاً من تحويله إلى مصدر قوة أصبح مصدر فتنة ونزاع دموي، إنه التفريط بالتنوع لغياب ثقافة التعايش والتسامح، ربما توجد قوانين تكفل حقوق الآخرين، لكن تلك القوانين غير مدعومة بالتنفيذ الصارم، وغير مدعومة بنشر الوعي، مع الثابت أن تنوع الثقافة يشكل مجتمعات حضارية، ولكن مع حسن إدارة التنوع.
ظل التعايش في تلك البلدان لا يتجاوز التساكن، أي من حقك أن تعيش ولكن بشرط الخضوع للأغلبية الاجتماعية، ما زالت كتب الفقه العنصرية تميّز بين البشر بنجاسة أو طهارة الطعام، بالإيمان والكفر، وتلك ثقافة تشاع في المدرسة والشارع، بينما من المعلوم أن التنوع الاجتماعي والثقافي أداة قوة لا ضعف للمجتمع، بشرط النجاح بإدارة التنوع مثلما تقدم.
ليس هناك من شعب على وجه الأرض يستغني عن مهارات غيره من الشعوب، وأن الاستفادة من هذه المهارات تحتاج إلى حماية الاختلاط الاجتماعي، على المستويات كافة.
يبقى المجتمع، مهما كانت درجة تقدمة أو تخلفه، يُدار بقوانين تتحول مع الأيام إلى أعراف اجتماعية، وهذا ما يحصل في دولة الإمارات، فإدارة مئتي جنسية، بمختلف تنوعاتهم وأذواقهم في طقوسهم وأعيادهم، لم تنجح كلّ هذا النجاح إلا بدور الدولة الحازم والحاسم، لا تسامح ولا تساهل مع الخلل بالقوانين التي تكفل التعايش، ومِن أي شخص علت منزلته أو نزلت، مواطن أو وافد.
لا يعرف ويُقدر نموذج الإنجاز الإماراتي بجعل التنوع قوة إلا مَن عاش أو زار الإمارات، وأدرك ما كانت عليه وما آلت إليه، وأدرك أن البشر هنا، على مختلف تنوعاتهم، تضبطهم قوانين أخذت طريقها لتصبح أعرافاً راسخة في الثقافة الاجتماعية، وعندها سيتخلص من النظرة النمطية على هذه المنطقة، عبر تأمُل الإنجاز الحضاري بقول إن التنوع قوة إذا حسنت إدارته، ويكون ضعفاً ومثاراً للنزاع إذا فشلت إدارته.
نقلا عن "العرب اللندنية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة