"جريمة الإيموبيليا".. معمار درامي لا يعرف البناية الشهيرة في مصر
عمارة "الإيموبيليا" في مصر كان يقطنها المشاهير أمثال محمد فوزي وأسمهان وليلى مراد وهنري بركات ونجيب الريحاني.
تعد عمارة "الإيموبيليا" أضخم عمارة في القاهرة الكبرى، صممها المهندسان المعماريان ماكس أذرعي وجاستون روسي عام 1940 عند نقطة التقاء شارعي شريف وقصر النيل، وكانت السكن المفضل لمشاهير المجتمع من السياسيين والفنانين والرياضيين في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وبلغت مساحتها ٥٤٤٤ متراً مربعاً، لدرجة أن أطلق عليها هرم مصر الرابع.
هذه العمارة كانت مسرحا لفيلم "جريمة الإيموبيليا" الذي عرض بمهرجان القاهرة السينمائي الأخير، أو هكذا زعم المخرج خالد الحجر في محاولة لاستثمار هذا الاسم البراق في عالم البنايات الشهيرة بوسط البلد في مصر، وربما في محاولة لاستغلال نجاح رواية وفيلم آخر حمل اسم عمارة شهيرة أخرى وهي "عمارة يعقوبيان" الكائنة بشارع طلعت حرب، والتي صممها المعماري الأرمني جارو باليان، وصورت في فيلم عام 2006 أخرجه مروان حامد وحقق نجاحا كبيرا.
وفي فيلم "جريمة الإيموبيليا" نجد أنه لا توجد أي علاقة بين العمارة أو أي عمارة شهيرة بمصر وبين هذا الفيلم، الذي يمكن أن تقع أحداثه في أي مكان وزمان، لا عمارة بعينها كان يقطنها المشاهير.
أما "معمار" الفيلم الدرامي ذاته فهو نسيج يجمع بين "البوليسي" على طريقة حبكة أفلام هتشكوك و"السيكودرامي"، الذي يقترب أحيانا من الرواية الشهيرة "دكتور جيكل ومستر هايد"، التي كانت موضوعاً لأفلام كثيرة، ووصل الأمر إلى حد وصف الشخص الذي يعيش حياة مزدوجة ظاهرها الخير وباطنها الشر باسم شخصية الفيلم.
وبأسلوب البناء التراكمي المتوالي أحيانا والمتوازي أحيانا أخرى نتابع بطل العمل الكاتب الروائي "كمال حلمي"، الذي يعيش وحيدا في شقته بعد أن ماتت زوجته وهجره أولاده للعيش مع أهل والدتهم في كندا، وفي إحدى الليالي يقرر كمال أن يؤنس وحدته بدعوة فتاة تعرف عليها عن طريق الإنترنت إلى شقته لكن بعد وصولها تقع حادثة يكتشف بعدها أنه كان ضحية محاولة ابتزاز وتتوالى جرائم القتل داخل العمارة.
ويرسم الفيلم شكل شخصية بطله الرئيسي، ثم باقي الأبطال على نحو هندسي جذاب متدفق الإيقاع أحيانا وأكثر بطأ في أحيان أخرى، فشخصية "كمال حلمي" التي يلعبها هاني عادل بمهارة واضحة من خلال اطلاعه على حالات كثيرة مصابة بالمرض النفسي تضعنا في حيرة بين نزقه لما يبدو أنه محاولة لكسر حالة العزلة من حوله، وبين تقوقعه داخل ذاته ومخاوفه، بل هلاوسه التي نطالعه خلالها عندما يتحدث مع شخص آخر يبدو أنه "الأنا" وفقا لمدرسة التحليل النفسي عند سيجوند فرويد.
هذه الحالة تتمدد طوال الأحداث بينما نتابع استعانته بصديقه وجاره والناشر الخاص لروايته لإنقاذه من التهمة التي يمكن أن توجه إليه في حال اكتشاف وفاة الفتاة في منزله في أعقاب علاقة بينهما تنتهي بمصرعها.
وينجح المخرج خلال الأحداث، ومع توالي جرائم القتل لبواب العمارة الوحيد الذي يعرف الجريمة ثم الخادمة وزوجها ثم صديقه نفسه، في أن يربك حسابات المتلقي بخلق حالة من الشك والريبة في كل الشخصيات المحيطة، وهنا يظل البناء الدرامي متقنا في التصاعد التدريجي وشحن أدوار من البناء المتوازي بين المرض النفسي الذي صار يتضح تدريجيا عند البطل وبين البناء البوليسي المتدرج بدوره، وصولا للعقدة الدرامية أو سطح البناء، ليكشف عن حقيقة بطل مصاب "بالشيزوفرينيا" تدفعه لكل جرائم القتل السابقة وسط سلسلة من المفاجآت المتتالية، بل يخلط معها مرضا آخر هو "الفصام"، حيث يسمع شتائم وسخرية من تصرفاته عبر صوت يأتي من الداخل إلى الخارج.
هكذا يتأكد لنا أنه لا علاقة لعمارة وسط البلد الشهيرة، بل حتى شقة النجمة الراحلة ليلى مراد التي صور الفيلم بشقتها بعد أن طالعتنا الصحف مؤخرا بشراء المؤلف والمخرج خالد الحجر لها من الورثة، وبين أحداث الفيلم سوى أن بطله شخصية مشهورة.
لكن يبدو أن حديثا سابقا للمخرج ومؤلف الفيلم خالد الحجر في أحد البرامج التلفزيونية مؤخرا عن الشقة التي سكنها حديثا كان خلف صناعة هذا الفيلم، حيث كشف في شهر أكتوبر الماضي عبر برنامج "واحد من الناس" لعمرو الليثي أنه يعاني من رؤية أشباح وكيانات غامضة في شقته بعمارة "الإيموبيليا" الشهيرة بوسط البلد، ويبدأ ظهور تلك الأشباح من وقت المغرب حتى بعد الفجر، مؤكداً أنهم منتشرون حوله في كل مكان، خاصة في الممر الخاص بالشقة، وفي بعض الأحيان بالحمام وغرفة نومه.
ولفت الحجر إلى أن تلك الشقة كانت تعيش فيها الراحلة ليلى مراد التي توفيت عام 1995، واشتراها بعد ذلك، وغير أثاث الشقة بالكامل، فيما عدا غرفة نوم ليلى مراد حيث قرر الاحتفاظ بها.
هاني عادل لعب شخصية البطل على نحو مبتكر وجذاب بما يؤكد موهبته التمثيلية خلال السنوات الأخيرة، ونجح طارق عبدالعزيز في خداعنا بأدائه المركب والبسيط في الوقت نفسه، وجعلنا نشك في تصرفاته في بعض اللحظات حتى يصبح ضحية القاتل الصديق.
ونجحت ناهد السباعي، رغم قصر حجم دورها الذي لا يتجاوز 5 مشاهد، في أن تفرض نفسها كبطلة لقصة تظل في ذاكرتنا حتى المشهد الأخير، كما نلمح أداء جيدا لدعاء طعيمة ويوسف إسماعيل وعزة الحسيني ومنحة زيتون ولطيفة فهمي وحسن حرب وياسمين الهواري وعلي خميس وعزمي داوود وأحمد عبدالله محمود.
واستغل التصوير تاريخ شقة ليلى مراد بصورها واستدعاء الماضي على نحو مقبول بإضاءة مناسبة للحالة النفسية للأبطال وطقس عام لفيلم يخلط بين البوليسية والسيكو دراما، لكنه لم يوظف هذه الحالة بسبب سيناريو الفيلم، مكتفيا باعتبار الشقة كالعمارة مجرد "لوكيشن" لتصوير أحداث غريبة.
ولم يكن هناك معنى لوجود راوٍ في أحداث الفيلم، فكان مفتعلا ويكشف عن استسهال في بناء السيناريو، كما يظل المط والتطويل أحد عيوب الإيقاع، وكان يجب تلافيه في المونتاج لكن ذلك لم يحدث.