أردوغان سيمضي في لعبة الدم الليبي حتى النهاية، والثابت أيضا أن منطقة المغرب العربي تحولت لنقطة جذب لنشاط المحور التركي- القطري.
يقف السلطان أردوغان من شرفة بابه العالي في إسطنبول، ينظر من فوهة التاريخ إلى أفريقيا، يفكر جليا بكيفية الوصول إليها والسيطرة عليها، فيجد في حكومة السراج والميليشيات التابعة لها في طرابلس الليبية نقطة ارتكار لتحقيق حلمه، يقلب أوراق التاريخ وإمكاناته، فيرى في الحليف القطري ممولا فوق العادة لمد مشروعه بالحياة، وفي الإسلام السياسي أداة مهمة لتحقيق ذلك.
وهو يفكر بكل هذا يجد أمامه زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي واقفا على بابه العالي، كيف لا والأخير يمارس منذ الثورة التونسية عام 2011 أيديولوجيته الرامية إلى الأسلمة التدريجية للدولة الوطنية التونسية، وعليه لم يكن غريبا أن أولى كلمات الغنوشي في مطار تونس عندما عاد إليها عقب الثورة كانت الدعوة إلى الاقتداء بنموذج حزب العدالة والتنمية التركي في الحكم على أساس أنه وفق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، دون أن ينظر إلى كيفية تحول هذا الحزب إلى حزب شمولي حاكم، يقوده سلطان مستبد، حول بلاده إلى أكبر سجن لكل من ينتقده بشهادة معظم المنظمات الدولية المعنية بالحريات والحقوق.
يمضي الغنوشي في قناعته بأن الوصول إلى السلطة عبر قواعد اللعبة الديمقراطية يمنحه رسم سياسات الدولة دون أي فصل بين السلطات، أو اعتبار للدستور والصلاحيات الناظمة لهذه السلطات، هكذا يضع الإسلام السياسي في مواجهة الدولة المدنية، ويرهن السيادة الوطنية لاعتبارات الأيديولوجية.
يزور الرجل تركيا مرارا سرا، يعقد جلسات مغلقة مع أردوغان، يبحث معه تطورات المعارك في ليبيا والأوضاع في منطقة المغرب العربي، وكأنه رئيس للدولة التونسية وليس لبرلمانها المحددة للمهام والصلاحيات، فينفجر الشارع التونسي غضبا، وترتفع الأصوات الوطنية المطالبة بإقالته أو رفع الحصانة عنه ومحاسبته.
فتتحرك الجيوش السرية لحركة النهضة، وتوجه التهديد تلو التهديد للشخصبات الوطنية في وقت ما زال دماء الشهيدين بلعيد والبراهيمي يسيل في الشارع وكأن لسان حال الغنوشي يقول: إما السير في أيديولوجيتي أو دفع تونس إلى الفوضى والانفجار، فالرجل يُغلّب كل ما هو أيديولوجية على كل ما هو وطن ودولة ومؤسسات.
ما يفكر به الغنوشي هو ما يريده أردوغان بالضبط، فالرجل بالنسبة له خير أداة لنشر الفوضى في بلاده، ولانجاح مشروع أردوغان في أفريقيا، حيث لا يجد الغنوشي خارج ذلك أي أفق لمشروعه ومستقبله.
وفي الأساس، فإن العلاقة بينهما (أردوغان والغنوشي) ليست وليدة اليوم أو وليدة الارتجال السياسي، وإنما هي علاقة تراكمية وتفاعليه بين المركز والأطراف وبشكل أدق الأدوات.
فإسطنبول التي تحولت إلى مركز للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، باتت بمثابة محطة وقود لتعبئة جماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي، إذ أن هذه الجماعات كلما انكسرت أو تلقت هزيمة في بلدانها لا تجد سوى إسطنبول مرتعا لترميم نفسها والإعداد لتجديد هجومها على دولتها الوطنية تحت شعارات أخلاقية ودينية في وقت يعرف الجميع أنها ليست سوى شعارات سياسية هدفها الوصول إلى السلطة والحكم.
الغنوشي هو ما يريده أردوغان بالضبط، فالرجل بالنسبة له خير أداة لنشر الفوضى في بلاده، ولإنجاح مشروع أردوغان في أفريقيا.
في الوقت الذي وضع الغنوشي الإسلام السياسي في مواجهة القوى الوطنية التونسية، ويسعى إلى تغيير بنية مؤسسات الدولة وجوهرها، يفكر أردوغان بكيفية تحويل تونس إلى قاعدة عسكرية للإطباق على ليبيا، ومحاصرة مصر، والولوج إلى عمق أفريقيا التي انطلقت منها طائرات أردوغان لنقل الأسلحة إلى الساحة الليبية بهدف المزيد من الاقتتال.
وهو جاء بعد أن تأكد لأردوغان أن موجات نقل المرتزفة من سوريا إلى ليبيا لم تعد تكفي لمد السراج بما يكفي لإلحاق الهزيمة بالجيش الوطني الليبي بزعامة اللواء خليفة حفتر، كما جاء بعد أن حدت عملية إيريني الأوروبية من تدفق شحنات الأسلحة التي يرسلها أردوغان باستمرار من سوريا إلى ليبيا رغم اتفاق برلين القاضي بوقف تدفق الأسلحة والمسلحين المرتزقة إليها.
الثابت أن السلطان أردوغان سيمضي في لعبة الدم الليبي حتى النهاية، والثابت أيضا أن منطقة المغرب العربي تحولت إلى نقطة جذب لنشاط المحور التركي - القطري.
والثابت أيضا أن الغنوشي سيواصل تماهيه مع سياسة أردوغان ووضع الأيديولوجية في مواجهة الدولة الوطنية، وهو ما يفرض على الشارع التونسي وأحزابه وحركاته ومؤسساته المدنية التحرك لوضع نهاية لهذا العبث وانتصارا لدولتهم الوطنية، كما يتطلب وقفة عربية ودولية مع هؤلاء كي لا تتحول تونس إلى قاعدة جديدة لأردوغان في العبث بأمن الدول العربية ومصير شعوبها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة