دولتان يقع عليهما نظر الرئيس التركي، وهما روسيا والصين لملء الفراغ الذي تسبب به التوتر في العلاقات بين بلاده والولايات المتحدة.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان واضحا في رسالته أو ما قيل إنّه مقال صحفي نشره في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، بأنّ مرحلة الثنائية الأمريكية التركية وصلت إلى نهاية لم تكن في حسبان المسؤولين الأتراك قبل نظرائهم الأمريكيين الذين لا يستطيعون إيجاد البديل فحسب، وإنّما صناعته أيضا بما يملكون من نفوذ عسكري واقتصادي في الوقت ذاته.
لا شك أنّ السياسة الأمريكية قائمة على المصالح ولا تتعدى ذلك ولكن السلوك الذي انتهجه الرئيس التركي في الداخل والخارج جلب له الكثير من الأعداء، وبات الشعب التركي المسالم يدفع ثمن هذا التخبط بدءا من المحاكمات غير النزيهة للمعارضين وكذلك كتم الأفواه واعتقال الصحفيين وإغلاق وسائل التواصل الاجتماعي وغير ذلك.
باتت الولايات المتحدة، التي يتهمها أردوغان بالمساهمة وإن بطريقة غير مباشرة بمحاولة الانقلاب عليه، غير مقتنعة بسلامة علاقتها مع شكل الحكم الجديد الذي وصل في تركيا، لذلك هي الأخرى باتت تبحث عن حلفاء استراتيجيين جدد وليس تركيا فحسب، والتي سترضخ في النهاية للنفوذ الأمريكي مكرهة.
في الواقع إن الضغوط الأمريكية على تركيا لم يكن سببها القس أندرو برانسون المحتجز في أنقرة بتهم التجسس لصالح واشنطن، فالأمور ليست وليدة اللحظة وحتى لو أفرجت تركيا عن القس إلا أنّها ستتعامل بذات الطريقة لأن فكر الإدارة الأمريكية الجديدة مبني على لغة لم تكن معتادة عليها تركيا في السنوات السابقة وهي لغة أكثر حزما وشدة.
الوضع الاقتصادي في تركيا يسوء أكثر والليرة تنهار مقابل الدولار الأمريكي لتصل إلى مستويات غير مسبوقة، وما زاد الوضع تعقيدا هو تصريحات الرئيس دونالد ترامب الذي أصدر أوامر بزيادة الضريبة الجمركية على المنتجات التركية، بما فيها الصلب، المادة الأساسية التي تعود على تركيا بنحو مليار ومائتي مليون دولار سنويا، وهذا ما ستكون نتائجه كارثية دفعت مستشاري الحكومة للشؤون الاقتصادية إلى نصحها بالاستدانة من الشعب، وهذا ما يفسر دعوة أردوغان الأتراك لتحويل مدخراتهم من الذهب والدولار إلى الليرة التركية.
لا شك أنّها مرحلة خطيرة بالنسبة لحكومة الرئيس التركي أردوغان الذي عدّل الدستور ليعطيه صلاحيات أوسع وتحقق له ذلك، واستطاع خلال الفترة الماضية التخلص من جميع معارضيه متذرعا بمحاولة الانقلاب الفاشلة، متخذا منها شماعة يعلق عليها التهم للصحفيين والسياسيين وضباط الجيش غير المقتنعين بسياسته، لتخلو الساحة له تماما ويصل بذلك إلى مبتغاه باستلام زمام الأمور وقيادة تركيا وفق أيديولوجيته، ومع أنّه استطاع داخليا تمرير مشاريعه وأفكاره ونظريته لشكل الحكم في تركيا بات الخارج العقبة الأخطر بوجه الرئيس كامل الصلاحيات، والسؤال إلى أين سيتجه أردوغان في ظل ما تشهده بلاده من سوء الأوضاع الاقتصادية وانهيار الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي والضغوط الأمريكية التي لا يبدو أنّ نهايتها قريبة؟
في الواقع، دولتان يقع عليهما نظر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهما روسيا والصين لملء الفراغ الذي تسببت به حالة التوتر في العلاقات بين بلاده والولايات المتحدة.
صحيح أن العلاقات الروسية التركية وصلت إلى مرحلة متقدمة من التنسيق بين البلدين وتخطت بكثير المسألة السورية وما عاد الملف السوري يشكل أهمية كبيرة للجانب التركي، بل بات الرئيس رجب طيب أردوغان مستعدا لإرضاء نظيره الروسي فلادمير بوتين ولو على حساب مَن كان يدافع عنهم بالأمس، ولكن لن يكن بمقدور زعيم الكرملين إنقاذ حليفه المرحلي لسببين اثنين.
الأول: أن روسيا مكبلة هي الأخرى وتعاني اقتصاديا بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية الناتجة عن ملف جزيرة القرم وتسعى لفك عزلتها بالمراوغة واللعب على المتناقضات بين واشنطن والعواصم الأوروبية للوصول إلى حالة استقرار سياسي واقتصادي في آن واحد .
ثانيا: الملف السوري الذي لم ينجز فيه أردوغان ما هو مطلوب منه من قبل الروس لصالح التسليم بشكل الحل الذي تعمل موسكو على تسويقه ببقاء حكومة الرئيس بشار الأسد في السلطة، وهذا ما يتطلب أثمانا كبيرة قد يقدمها أردوغان لحليفه بوتين من أجل البدء بمرحلة أكثر تماسكا وارتباطا، ولعلّ إدلب ومعركتها المقبلة الثمن الأسهل الذي تقدمه أنقرة لموسكو وعندها يمكن للروس المساهمة بدعم الأتراك والوقوف إلى جانبهم كما حدث إبّان محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 حين رفضت موسكو المحاولة، وهذا لن يصل بالطبع لمستوى الطموح التركي الباحث عن حليف يضاهي الولايات المتحدة؛ لأنّ بوتين رجل مخابرات ويعرف تماما أنّه ليس من مصلحة بلاده المضي مع تركيا إلى مجابهة الولايات المتحدة.
أما الصين الدولة الصناعية الكبيرة فهي تلعب دور السياسة الهادئة البعيدة عن المحاور باستثناء التنسيق مع روسيا للجم التحركات الأمريكية في العالم والسعي لتخليصه من سياسة القطب الواحد، وهذا ما لن تجده في تركيا التي لا تشكل ثقلا كبيرا لا على الصعيد العالمي في الأمم المتحدة ولا في حسابات الدول الخمس الكبرى، فالاتجاه نحو الصين محاولة محكوم عليه بالفشل مسبقا، لأن الأخيرة تحكمها علاقات تجارية كبيرة مع الولايات المتحدة، إذ وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2015 إلى 519.6 مليار دولار، وعليه فإنّه من غير المرجح تضحية بكين بكل هذا من أجل إنقاذ حكومة أردوغان.
نعم، كانت الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا حليفتين استراتيجيتين وكانتا تشكلان ثقلا كبيرا في حلف الناتو منذ انضمام تركيا قبل نحو نصف قرن، حينها لم تكن تركيا على ما هي عليه الآن، ولم يكن الرئيس رجب طيب أردوغان ينقّل السياسة الخارجية التركية من هذه الضفة ويضعها في أخرى، لذلك باتت الولايات المتحدة، التي يتهمها أردوغان بالمساهمة وإن بطريقة غير مباشرة بمحاولة الانقلاب عليه، غير مقتنعة بسلامة علاقتها مع شكل الحكم الجديد الذي وصل في تركيا، لذلك هي الأخرى باتت تبحث عن حلفاء استراتيجيين جدد وليس تركيا فحسب، والتي سترضخ في النهاية للنفوذ الأمريكي مكرهة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة