أقرت إدارة ترامب تجميد أصول وممتلكات وزيري العدل والداخلية التركيين بحجة انتهاكهما حقوق الإنسان والإصرار على حبس القس الأمريكي.
نحن أمام مسرحية كبيرة، عنوانها استخدام الأزمة السياسية بين تركيا وأمريكا من أجل التغطية على أسباب انهيار الليرة التركية الحقيقي، وعلى العكس مما يتم الترويج له من أن تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقراراته بشأن تركيا، هي السبب الرئيسي لهذا الانهيار التاريخي لليرة التركية، إلا أن الحقيقة هي أن ما يحدث لليرة التركية سببه سوء إدارة الاقتصاد التركي، وكان سيحدث آجلاً أو عاجلاً، وسواء انفجرت أزمة القس الأمريكي أندرو برونسون المسجون في تركيا أو لا.
ولشرح هذا القول نبدأ بقرارات الرئيس دونالد ترامب وآثارها على الاقتصاد التركي، بداية أقرت إدارة ترامب تجميد أصول وممتلكات وزيري العدل والداخلية التركيين، بحجة انتهاكهما حقوق الإنسان والإصرار على حبس القس الأمريكي دون دليل دامغ، وهذا القرار لا أثر له على الاقتصاد التركي؛ لأن الوزيرين لا ممتلكات لهما ولا حسابات مالية في أمريكا، فالقرار كان مهما في رمزيته بأن ترامب مستعد لأن يضحي بالعلاقات القوية والوثيقة مع أنقرة في سبيل الإفراج عن ذلك القس، ثم جاء حديث واشنطن عن مراجعة اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، والذي تلاها قرار آخر بفرض رسوم جمركية على صادرات الصلب التركية إلى أمريكا.
وهنا أيضا يجب أن نشير إلى أن حجم التجارة بين البلدين 20 مليار، حيث صدرت تركيا إلى أمريكا نحو 9 مليارات دولار عام 2017، شكل الصلب ملياراً واحداً فقط منها، ووفق تصريحات سابقة لمصدري الصلب الأتراك، تعليقا على فرض واشنطن جمارك على وارداتها من الصلب من أوروبا والصين واحتمال أن يشمل القرار مستقبلاً تركيا أيضا، فإن هؤلاء المصدرين قللوا من آثار هذا الأمر؛ لأن أسعار الصلب التركي أقل بكثير من منافسيه في الصين وأوروبا، وعليه فإن فرض جمارك على الصلب التركي الوارد إلى أمريكا، سيساويها في المعاملة مع واردات الصين وأوروبا، ومع بقاء سعر الصلب التركي أرخص فإن قرار ترامب الأخير لن يؤثر بشكل جدي على صادرات تركيا إلى أمريكا، وحتى لو أثر بانخفاض هذه الصادرات جزئيا فلدى تركيا أسواق أخرى تستطيع أن تعوض من خلالها.
أردوغان يعلم أن أزمته السياسية مع واشنطن لن تنتهي إلا بالإفراج عن القس برونسون، لكنه لا يمانع في إطالة أمد الأزمة للتغطية على فشل سياسات حكومته الاقتصادية، والظهور في صورة المتحدي لأقوى قوة سياسية في العالم، مستعيناً بالإعلام المحلي الذي يسيطر على غالبيته
هذا فيما يتعلق بقرارات أمريكا السياسية، لكن فيما يتعلق بتركيا، وهو الأهم، فإن المحللين الاقتصاديين كانوا قد حذروا منذ مطلع هذا العام من اقتراب أزمة سيولة مالية ستواجه تركيا خريف هذا العام، وبناء على هذه التقارير لجأ الرئيس أردوغان إلى تقريب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية من نوفمبر 2019 إلى يونيو الماضي، لتجنب اللجوء إلى الانتخابات تحت وطأة أزمة اقتصادية. حدث ذلك دون أي تأثير من واشنطن أو من العلاقات معها. أزمة الليرة التركية الحالية هي أزمة مالية وليست اقتصادية وهناك فرق، فالأزمة تتلخص في تعاظم ديون القطاع الخاص في تركيا والتي بلغت 217 مليار دولار حسب بيانات البنك المركزي، منها 20 مليار دولار تستحق السداد خلال شهري سبتمبر وأكتوبر القادمين، هذا بالإضافة إلى تعاظم العجز في ميزان التجارة الخارجية الذي بلغ 57 مليار دولار أي ما يعادل 6.5% من الدخل القومي.
فالذين يتحدثون عن ازدياد الصادرات التركية، يتناسون أن واردات تركيا تزداد بوتيرة أكبر وأسرع، وأن التصدير قائم على صناعات تركيبية وتجميعية، تعتمد على استيراد المادة الخام من الخارج بالدولار، وتجميعها ثم بيع جزء من هذا المنتج محلياً وتصدير الباقي.
وهناك العديد من المحللين الاقتصاديين في تركيا الذين بدأوا الانتباه إلى تعاظم الديون التركية وتراكمها وإعادة تدويرها منذ عام 2013، وحذروا من يوم يأتي مستقبلاً يتعاظم فيه هذا الدين بشكل يكون من الصعب معه الحصول على ديون جديدة لتدويره، وها قد جاء هذا اليوم. هنا تجب الإشارة إلى أن جزءا مهما من هذه الديون يعود إلى مشاريع حكومية في الأصل، لكن القطاع الخاص تولى تنفيذها وتمويلها، مثل بناء الطرقات والجسور، لأن حكومة الرئيس أردوغان خلال السنوات العشر الأخيرة، حاولت التخفيف من ديون الحكومة من خلال طرح هذه المشاريع على القطاع الخاص، الذي يستدين من الخارج لتنفيذها على أمل تحصيل تكاليفه وأرباحه من عائدات هذه المشاريع وهو ما لم يتحقق، لذا فإن القطاع الخاص يتحمل اليوم هذه الديون، وهي حيلة سياسية كي تتمكن الحكومة دائما من التباهي بقلة ديونها الخارجية ورمي الحمل على القطاع الخاص.
ديون القطاع الخاص التركي تتعاظم مثل كرة الثلج منذ عام 2013، والحكومة التركية تقدم حلولاً ترقيعية وجزئية من أجل الحفاظ على المظهر العام والصورة الخارجية للاقتصاد التركي، من خلال ضخ أموال ضرائب المواطنين، لدعم القطاع الخاص ودعم سعر الليرة الذي نلاحظ أنه بدأ مسيرة التراجع منذ عام 2013.
كما أن حرص الرئيس أردوغان على إظهار معدل نمو كبير لخدمة دعايته الحزبية داخليا، دفع إلى استهلاك الاحتياطات النقدية الأجنبية في البنك المركزي التركي خلال هذه الفترة.
واليوم تجد الشركات التركية صعوبة في الحصول على ديون جديدة من الخارج لتدوير ديونها، لأن المستثمرين الأجانب والبنوك الأجنبية تطالب بأسعار فوائد أعلى يوما بعد يوم مع تعاظم هذه الديون، ومع تراجع سعر الليرة. هنا يقف الرئيس أردوغان مصرا على موقفه بعدم رفع سعر الفائدة في البنك المركزي، وعليه فإن المستثمرين الأجانب ليسوا شركات خدمات اجتماعية ليقدموا القروض للشركات التركية دون أرباح حقيقية. وهذا هو السبب الرئيسي في هذه الأزمة.
كما أن ضخ الحكومة التركية للأموال من احتياطاتها في الأشهر الستة الأولى من هذا العام قبل الانتخابات من أجل إنقاذ ماء وجه الاقتصاد التركي، دفع إلى تأخير وتباطؤ هبوط سعر الليرة التركية إلى قيمتها الحقيقية في الأسواق العالمية، وهناك محللون أتراك يقولون إن السعر الحقيقي لليرة التركية عالميا حاليا هو 7.3 ليرة للدولار، وإن ضخ الأموال قبل الانتخابات ساعد في تأخر هبوطها إلى هذا السعر، أما اليوم فإن الحكومة توقفت عن ضخ الأموال وتركت الليرة لتلاقي مصيرها، وعلى الأغلب فإن الحكومة التركية تنتظر حتى يتم تصحيح سعر الليرة عالميا وتصل إلى 7.5 أو 8 ليرة للدولار حتى تتدخل من جديد، إما برفع سعر الفائدة قليلا وإما بضخ المزيد من الاحتياطات. وحتى يتم تصحيح سعر الليرة عالميا يتم استغلال الأزمة مع واشنطن للتغطية على السبب الحقيقي لهذه الازمة، وتبرأة ساحة الحكومة منها.
هنا يستغل الرئيس أردوغان أزمة القس الأميركي مع واشنطن ليعلق على شماعتها سبب الأزمة المالية اليوم، وكذلك يستفيد من خلال شحذ الشارع التركي موالين ومعارضة ضد أمريكا، ليزيد من مشاعر القومية بين الناخبين، خدمة لشعبية حزبه الحاكم قبل الانتخابات البلدية.
وفي نهاية الأمر فإنه بعد إجراء الانتخابات البلدية في نوفمبر المقبل على الأغلب، أو بعد تصحيح سعر الليرة التركية عالميا، سيتمكن الرئيس أردوغان من إقناع الشارع التركي بأنه مضطر للاحتكام إلى صندوق النقد الدولي للاقتراض منه بسبب سياسات واشنطن والأزمة معها.
وقد أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة أن الناخب يقدم الاستقرار السياسي حتى على هشاشة الوضع الاقتصادي، وفي انشغال المعارضة في مشاكلها الداخلية وعدم ظهور زعيم معارض قوي يتحدى أردوغان، فإن الظروف تبدو مهيأة لنصر جديد للحزب الحاكم في الانتخابات البلدية، لتكون يد الرئيس أردوغان حرة لمدة خمس سنوات قادمة خالية من أي انتخابات، يستطيع خلالها إصلاح العلاقات مع واشنطن، كما فعل سابقا مع روسيا وألمانيا، والاقتراض من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي للتخفيف من آثار الأزمة الاقتصادية، التي سيشارك المواطن التركي بشكل كبير في دفع ثمنها من ضرائبه التي ستتصاعد، ومن زيادة البطالة والتضخم لسنوات ثلاث قادمة، حسب تحليلات خبراء الاقتصاد.
الرئيس أردوغان يعلم أن أزمته السياسية مع واشنطن لن تنتهي إلا بالإفراج عن القس برونسون، لكنه لا يمانع في إطالة أمد الأزمة للتغطية على فشل سياسات حكومته الاقتصادية، والظهور في صورة المتحدي لأقوى قوة سياسية في العالم، مستعيناً بالإعلام المحلي الذي يسيطر على غالبيته، والإعلام الإخونجي الذي يدعمه إقليميا للترويج لأطروحاته، وضعف المعارضة السياسية في تركيا. إذ لا ضرر في أن تتحول أمريكا إلى "الشيطان الأكبر" لعدة أشهر في نظر المواطن التركي، قبل أن يكتشف الحقيقة بعد ذلك ويدفع ثمنها من جيبه لا من رصيد الرئيس أردوغان السياسي.
ملاحظة أخيرة: عدم اكتراث الرئيس أردوغان بإطالة الأزمة مع واشنطن للأسباب المذكورة أعلاه والتي تحقق له فوائد سياسية داخليا، سيزيد الضغط على إدارة الرئيس ترامب التي تحاول إنهاء أزمة القس برونسون قبل الانتخابات النصفية نوفمبر المقبل من أجل كسب تأييد الناخبين، وهو ما يساعد الرئيس أردوغان على رفع سقف مطالبه السياسية في مفاوضاته مع ترامب وواشنطن، وقد يبدو ذلك ذكاء سياسيا من قبل الرئيس أردوغان، لكنه يأتي على حساب اقتصاد تركيا وجيب المواطن الذي انتخبه ووثق به.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة