أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون -في تصريح نشرته صحيفة "ليزيكو" الاقتصادية الفرنسية بعد يومين من زيارته لبكين مؤخرا أن على أوروبا عدم الانحياز إلى أمريكا أو الصين في صراعهما حول جزيرة تايوان، الأمر الذي أثار حفيظة واشنطن؛ إذ دعا السيناتور الجمهوري ماركو
ويأتي تصريح ماكرون في وقت تشتد فيه المعارك في أوكرانيا والصراع حول مستقبل تايوان؛ إذ تعدها بكين جزءاً لا يتجزّأ من أراضي الصين، ولم تتمكّن بعد من إعادة توحيدها مع بقيّة أراضيها منذ نهاية الحرب الأهليّة الصينيّة في 1949.
وكانت فرنسا قد أبدت قلقها منذ سنوات حول قوة أمريكا ونفوذها في القارة الأوروبية، وقد أجبرت باريس الناتو -مقر الحلف سابقاً- على الانسحاب من أراضيها عام 1967، بسبب مخاوفها من النفوذ السياسي للولايات المتحدة على أوروبا، فضلاً عن دعم ماكرون فكرة إنشاء جيش أوروبي يعمل بديلاً عن حلف الناتو العسكري الذي يضم أمريكا وعدداً كبيراً من دول أوروبا، ليتوج ماكرون أفكاره عبر تصريحه مؤخراً، قائلاً: "أولويتنا ألّا نتكيّف مع أجندة الآخرين في مختلف مناطق العالم، وعلينا أن نطرح على أنفسنا سؤالاً، أين تكمن مصلحتنا؟"، داعياً في الوقت نفسه إلى أن يكون الاستقلال الاستراتيجي للقارة الأوروبية هو التحدي الأهم لها، للتخلص من الهيمنة الأمريكية أو الاصطفاف إلى جانب الصين القوة الصاعدة.
ومن خلال المتابعة والتمحيص والتحليل المنطقي لتحولات المشهد السياسي الدولي لا يمكن اعتبار تصريحات ماكرون بمثابة توجه كامل وجدي لدول الاتحاد الأوروبي.
وكذلك لا يُعد الرئيس الفرنسي ناطقاً باسم الاتحاد، نظراً إلى التمايز والاختلاف في ملفات عديدة ومتشعبة خلال السنوات الأخيرة، مثل قضية مكافحة وعلاج جائحة كورونا، وكذلك قضية دعم دول الاتحاد لكييف خلال الحرب المستعرة منذ أكثر من عام، ولهذا لن يكون لتصريح ماكرون حول ضرورة الاستقلال عن التوجهات الأمريكية صدى وآذان مصغية وقبول جلي في عدد كبير من الدول الأوروبية، نظراً إلى اختلاف الأجندات بينها، ومدى العلاقات بين تلك الدول الأوروبية وأمريكا من جهة والصين من جهة أخرى.
وتبعاً لذلك، ستسعى أمريكا للإبقاء على تحالفها القوي مع القارة الأوروبية، لمواجهة صعود الصين وروسيا، وإمكانية استحداث نظام دولي جديد، فيه قوى وازنة جديدة في العلاقات الدولية التي تهيمن على ديناميكيتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن بعيد.
ولهذا السبب، فإن تهديدات السيناتور الأمريكي عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو -عبر تغريدة في صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"- بترك أوروبا تتعامل مع الأزمة الأوكرانية بمفردها والتركيز على قضية تايوان، إنما هي ردة فعل غير مدروسة على تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
ثمة أسئلة كثيرة ومثيرة للجدل حول تصريحات ماكرون، فهل يسعى من وراء ذلك لأن يكون الزعيم الأول في أوروبا ويبني شبكات قوية مع التنين الصيني الآخذ بالنمو، أم أن هناك اتفاقاً من تحت الطاولة مع أمريكا حول زيارته لبكين وتصريحاته بعد ذلك بيومين، بغرض إيقاف التمدد الصيني لجهة بناء جسور قوية ومتشعبة مع روسيا، وتالياً إسقاط فكرة إيجاد نظام دولي متعدد الأقطاب؟
وغالب الظن أن تصريحات ماكرون الأخيرة ليست بمثابة صحوة فرنسية سياسية خاصة أو أوروبية شاملة للانعتاق من آثار الهيمنة الأمريكية على القارة العجوز، وإنما ستبقى في إطار المحاولة والمناورة السياسية لإبعاد شبح بناء شراكة استراتيجية بين بكين وموسكو، وتالياً محاولة جذب الصين إلى المربع الأوروبي الذي يُعد أكثر جدوى اقتصادياً واستراتيجياً على المدى البعيد من روسيا.
ويمكن الجزم بأنه رغم تصريحات ماكرون التي أعقبت زيارته لبكين، ومدى جديتها وأهدافها الحقيقية الكامنة، وكذلك ردود الفعل الأمريكية الضيقة، لا يمكن الحديث عن فرط الشراكة بين أمريكا وأوروبا التي امتدت لعقود طويلة، وانطوت على أبعاد سياسية واقتصادية واستراتيجية في الوقت ذاته، وهي بذلك -أي شبكة العلاقات "الأمريكية-الأوروبية"- لا يعكر صفوها تصريح، وهي أكبر من أي تصريح هنا أو هناك يسقطها بضربة قاضية.
وستجيب الأيام المقبلة عن ذلك، ومن ثمّ سيتم تأكيد استراتيجية العلاقات بين أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، وأن ما حدث من تصريحات وأخرى مضادة إنما هو مجرد سحابة عابرة في ظل تحولات المشهد السياسي الدولي، واستمرار الحرب في أوكرانيا والصراع الناعم بين واشنطن وبكين حول مستقبل الجزيرة التايوانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة