ذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين يوم الأربعاء الخامس من أبريل/نيسان 2023 متربعا على عرش الاستعلاء الأوروبي على العالم.
مصحوبا بمفوضة الاتحاد الأوروبي فون دير لاين، وفي رحلة الذهاب ضجت وسائل الإعلام العالمية بالتحذيرات الأوروبية التي أطلقها الرئيس الفرنسي للصين من التجرؤ على إمداد روسيا بالسلاح، لأن هذا يعتبر مخالفة للقانون الدولي، مع العلم أنه لا يوجد قانون دولي يمنع الدول من تجارة السلاح، وإلا لكانت كل الدول التي قدمت الأسلحة لأوكرانيا مخالفة للقانون الدولي؛ على اعتبار المساواة بين روسيا وأوكرانيا في الوضع الدولي كدول ذات سيادة، وفي حالة حرب.
ورجع الرئيس ماكرون من الصين، السبت، الثامن من أبريل/نيسان 2023 حاملا هموم فرنسا وأوروبا، وخائفا على أمنهما، ومستقبلهما الذي يوشك أن تهدده مغامرات أمريكية بالمواجهة مع الصين حول تايوان، وداعيا إلى تحرير أوروبا من التبعية لأمريكا، ومحرضا على الاستقلال الاستراتيجي عن أمريكا، والتحرر من هيمنة السلاح والدولار الأمريكي على أوروبا، 3 أيام أعيد فيها تشكيل وعي الرئيس الفرنسي شديد الذكاء، وتحولت أفكاره من الضد إلى الضد. وهنا اختفى تماما صوت المفوضة الأوروبية فون دير لاين.
وأمام هذا التحول الكبير يثور السؤال المنطقي.. هل من المعقول أن تتغير رؤية رئيس فرنسا بلد القانون والدستور والثورات في 3 أيام؟ وهل يعقل أن تنقلب مواقف الرئيس الفرنسي بهذه الحدة؟ أم أن الأمور أعمق من ذلك بكثير؟ وهنا يمكن أن نطرح عددا من السيناريوهات التي يفرضها الواقع العالمي الحالي.
أولا: إن الرئيس ماكرون شغل قبل توليه الرئاسة عدة مناصب في مجموعة روتشيلد الاقتصادية العالمية التي تدور حولها أساطير؛ لا يمكنها تأكيدها، وفي نفس الوقت لا يمكن نفيها، ومن هو على اتصال بالنخبة الاقتصادية التي تدير العالم سيرى العالم على حقيقته، والحقيقة الآن تقول أن هناك عالما جديدا يتشكل، تتراجع فيه أدوار الدول أمام رأس المال، أو أمام النخبة المالية العالمية التي لا تؤمن بالدول ولا بالحدود، وتتحرك مع القوة الاقتصادية في مساحة مفتوحة، وكأن العالم كله هو ملعب جولف بالنسبة لهم، وهذه النخبة المالية العالمية بدأت منذ عقدين من الزمان في نقل مراكزها المالية تدريجيا من الولايات المتحدة إلى الصين، وبالتأكيد لن تسمح هذه النخبة أن تنهض الصين، وتحتل مركز الصدارة الاقتصادية العالمية، دون أن تكون هي في مركز الصدارة في الاقتصاد الصيني ذاته.
ثانيا: أن أوروبا جميعها قد أرهقت من الإدارة البائسة للحرب في أوكرانيا، تلك الإدارة التي تتولاها الولايات المتحدة، والتي وضعت أهدافا غير قابلة للتحقيق؛ وهي هزيمة روسيا، أو عدم السماح لها بتحقيق النصر. هذا الهدف السريالي لا يمكن أن يتحقق في ضوء معادلة القوة على الأرض، وفي ضوء الأوزان النسبية لكل من روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي، وأوكرانيا تلك الجمهورية السوفياتية المستقلة حديثا. فما قاله الرئيس ماكرون هو رأي الاتحاد الأوروبي وتولت حمله القيادة الفرنسية لأنها تشعر بالإهانة من التدخل الأمريكي لإلغاء صفقة الغواصات النووية التي تعاقدت أستراليا على شرائها من فرنسا، وتم إلغاء الصفقة قبل موعد تسليمها بوقت قصير مما أحدث أضرارا جسيمة بالاقتصاد الفرنسي.
ثالثا: المواجهة بين أمريكا والصين في أفريقيا أحدثت أضرارا غاية في التأثير على فرنسا، حيث تم نقل القاعدة وداعش، أو تمكينهما من منطقة الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا من أجل إجهاض النفوذ الاقتصادي الصيني في أفريقيا، وعلى إثر ذلك أنشأت الولايات المتحدة الامريكية قيادة جديدة لقواتها في الخارج تحت مسمى "أفريكوم" وهذا كله كان على حساب مناطق النفوذ التاريخي الفرنسي في أفريقيا.
من المؤكد أن واحدا من هذه السيناريوهات الثلاثة كان في عقل الرئيس الفرنسي، أو على طاولة المفاوضات مع الرئيس الصيني، أو أن هذه السيناريوهات الثلاثة جميعا كانت بجانب الشاي الصيني على طاولة اللقاء غير الرسمي الذي ظهر فيه الرئيسان الصيني والفرنسي على كراسي البامبو وبدون رابطة عنق. والله أعلم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة