لم يكن اتهام الرئيس الأمريكي السابق ترامب حدثا فريدا في تاريخ النظام الفيدرالي الأمريكي فحسب، بل حدث مهم على مستوى الأمة الأمريكية بأكملها في ظل ما سيجري من احتمالات توسيع نطاق الاتهامات لتشمل اتهامات أخرى جار إخراجها من الإدراج.
وتطول الذمة المالية للرئيس السابق وسلوكه الشخصي، وتعاملاته مع مؤسسات النظام الفيدرالي التي ما تزال تعمل بضوابط ومعايير حادة، حيث لا مكان للخروج عنها أو توجيه مساراتها، أو التعامل معها على أنها جزء من كل.
فالنظام الفيدرالي الأمريكي معقد بالفعل، ويعمل وفق مقاربات عديدة ومتنوعة، واستطاع أن يصهر الشعب الأمريكي في بوتقة واحدة، وبالتالي فإن الحديث بأن الرئيس الأمريكي ترامب مستهدف من هذا النظام، وأن هناك تسييسا للمشهد الراهن، مبالغا فيه، خاصة أن الاتهامات التي توجه للمدعي العام الفيدرالي ألفين براغ تأتي في إطار الصراع الراهن بين قيادات الحزب الجمهوري، والتي ترى أن هيئة المحلفين انحازت، وأنها لم تراع الضوابط القانونية في إطار مواجهة الرئيس بكل هذه الاتهامات التي قد تضم اتهامات أخرى وقعت في سنوات سابقة، وأن ما طرح مؤخرا مقدمة لما هو قادم من تطورات ستطول مسؤولين جددا من الحزب الجمهوري، وأن الفصل الأول في مسلسل التعامل والرئيس ترامب لم يبدأ بعد، وهو ما يجب وضعه في الانتباه في إطار معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة.
فالواقع الراهن يفترض بالفعل التعامل من أرضية أن الرئيس السابق ترامب لم يتم إدانته بعد، وأنه سيحاكم للعديد من الاتهامات، وسيظل في واجهة الأحداث، سواء في مجال الإعلام أو السياسة، بل يمكنه التنافس بقوة على موقع الرئاسة المقبل، وهو ما يجب تفهمه في إطار ما يجري من الآن فصاعدا في ظل الاستعدادات للانتخابات الرئاسية الاستهلالية، والتي من المفترض أن تبدأ بعد 4 أشهر من الآن.
ومن ثم فإن الحديث عن مسارات عدة لما سيجري، وكيفية نجاح الرئيس السابق ترامب في توظيف الملابسات الراهنة والمنتظرة ستتم لصالحه، خاصة أنه يبني مظلومية حقيقية ستزيد وقائعها في الفترة المقبلة لاعتبارات تتعلق بإدارة المشهد الانتخابي المقبل، وتزايد شعبيته بالفعل، لكن الإشكالية الحقيقية التي ستواجه الحزب الجمهوري قد تركز في مجملها على أن التطورات الجارية في ملف المحاكمات قد تنقلب على الرئيس السابق الخبير بإدارة الإعلام، والاتصال والواثق في أنه يستطيع العمل علي محاور عدة، وأنه سينجح في القفز فوق أية مشكلات باعتباره الأقوى، والأبرز في قائمة الترشيحات داخل الحزب الجمهوري رغم وجود منافسين حقيقيين قادرين على منازلته، لكن الأمر سيكون معلقا للتعامل في ظل سيناريو مختلف، ويدفع بالتأكيد على أن الخيارات التي تواجه ترامب ليس من داخل حزبه فقط، بل من داخل الحزب الديمقراطي الذي ما زال مراقبا لما يجري، ويدرك أن التيار الشعبوي اليميني الأمريكي لا يزال قويا، وقادرا على التعامل سواء كان الرئيس السابق ترامب في الواجهة، أم أنه سيتنحى من تلقاء ذاته -وهو أمر مستبعد -أو أن يخرج لاعتبارات أخرى قانونية.
سيواجه إذن الرئيس السابق بمعضلة الاستمرار في ظل نظام فيدرالي -عصي عن التطويع- قادر على مواجهة الرئيس السابق ترامب، وأي مرشح آخر يتحدى القيم الأمريكية الكبرى، ويمس الهيبة والمركز العالمي للأمة الأمريكية التي لا تريد أن تواجه اختبارات دولية جديدة أمام العالم بعد واقعة اقتحام الكونغرس التي لا يزال الرئيس السابق يحاكم فيها، ولم تتم إدانته فيها حتى الآن، وتحتاج إلى بعض الوقت لإثباتها، خاصة أن فريق المحامين الذين يترافعون عن ترامب لديهم يقين كامل بأن الرئيس السابق سيخرج من المواجهة الراهنة، ولن تتم إدانته، وأنه قادر على خوض معركة الرئاسة بالفعل في مواجهة الرئيس جو بايدن، أو أي مرشح آخر يتم طرح اسمه في دوائر الاختيار الراهنة داخل الحزب الديمقراطي، والتي لا تزال البورصة السياسية والحزبية تتداول أسماء عدة من حكام الولايات خاصة الشمالية، ولم تحسم بعد من داخل الحزب الديمقراطي.
ومن ثم فإن المشهد الانتخابي الحالي لا يزال تكتنفه خيارات عدة، وسيغلب على إدارته التربص والمهاترات الإعلامية والسياسية والحزبية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري من جانب، وبين القضاء الأمريكي من جانب آخر والذي سيظل في واجهة الأحداث، وسيباشر دوره في إطار ما يجري دون أن يحسم المشهد السياسي بصورة نهائية، بل بالعكس سيعمل في اتجاهات عدة، خاصة أن الأمة الأمريكية تشهد حالة غير مسبوقة من الانقسام والتشرذم لا علاقة لها فقط بالرئيس السابق ترامب، بل بما هو قادم من توترات تعم الأوساط الأمريكية ككل، وتدفع في اتجاه المزيد من التوتر العام وفقا لحالة المزاج الأمريكي، وتوجهات الجمهور الأمريكي الذي لا يزال يعمل في إطار من الحسابات الضيقة، ولكنه لا يريد لدولته مزيدا من التوتر العام في ظل عودة اليمين المتطرف لصدارة المشهد، ليس في الولايات المتحدة، لكن أيضا في عدد كبير من الدول الأوروبية، وهو ما يجب التعامل معه بحسم، وبمقاربة سياسية حقيقية وليست أنصاف الحلول، وفقا لمقاربة المؤسسات الفيدرالية على مختلف مهامها.
الواضح أن الأمة الأمريكية التي خرجت منذ سنوات الحكم الأولى للرئيس جو باين تواجه بتحديات، ومخاطر حقيقية في ظل مطالبات من المفكرين الأمريكيين بضرورة بناء خريطة فيدرالية للمناعة الوطنية، وإعداد وثيقة لعقد اجتماعي جديد بعد التغيرات التي جرت، ومست النموذج الأمريكي بعمق، وأنه ما لم تتم المراجعة الراهنة فإن السنوات المقبلة قد تشهد مزيدا من التشرذم الكبير، وستمس حقوق المواطن الأمريكي في مجموعه، ولن يقتصر علي شريحة واحدة، أو شرائح بعينها، ومن ثم فإن الأمر أكبر من استمرار محاكمة الرئيس السابق ترامب، أو خوض انتخابات رئاسية 2024 بل الأمر يرتبط بالفعل بالعمل معا جمهوريين وديمقراطيين لإنقاذ الأمة الأمريكية من تهديدات تطول مكانتها الدولية في ظل الصراع مع الصين وروسيا على تمدد دورها، وأن على الجميع في الساحة الحزبية التماسك في مواجهة ما يجري، وعدم تخوين مؤسسات نظام الحكم الراسخة، والتي توصف بأنها مؤسسات حديدية بالفعل، وأنها تعمل وفق معايير وضوابط صارمة بالفعل، وستدفع إلى توحيد الأمة الأمريكية، وإعادة اندماجها عند الضرورة باعتبار هذا الأمر متطلبا مهما وضروريا ينبغي التعامل مع تبعاته في الفترة المقبلة.
ومن ثم فإن سيناريوهات اليوم التالي لما بعد محاكمات الرئيس ترامب، والتي قد تبدأ بعد إعلان خوضه المعركة الانتخابية سترتبط بحالة من التربيطات الحزبية وتوافقات متعددة، خاصة أن البيئة السياسية في الولايات المتحدة ستسمح بمزيد من التحركات والتوجهات التي يمكن أن تتواتر بهدف تعلية فرص مرشح على حساب مرشح آخر من قبل الحزبين، والتي لن تقتصر على حزب دون الآخر، وفي ظل متابعات حقيقية لمؤسسات القوة لما يجري والتأكيد على أنها ستظل تراقب وتتابع، وترصد ما يجري في إطار فرض إجراءات وتدابير للضبط السياسي والحزبي وبما يهم الأمة الأمريكية بأكملها، وليس حزبا أو مرشحا رئاسيا مهما كان تأثيره أو حضوره، أو دوره في حزبه، وما ينطبق على الرئيس السابق ترامب يرتبط بصورة أو بأخرى على الرئيس الحالي جو بايدن، والمرشحون الآخرون المتوقع أن يخوضوا المعركة الاستهلالية على مستويات التصنيف الحزبي، وهو ما يدركه قادة الحزبين.
وبصرف النظر عن احتمال توقف محاكمة الرئيس السابق ترامب تكتيكيا، والذي قد ينجح في تحقيق مكاسب حقيقية في كل ما يجري، وسيكون على حساب باقي المرشحين الحزبيين من داخل الحزب الجمهوري ذاته، خاصة أن البعض يرى أن الحزب الجمهوري حزب عريق وشامخ، ولديه كوادره القادرة على منازلة أي مرشح ديمقراطي، والوصول إلى البيت الأبيض، وهو ما يدركه جيدا الرئيس السابق ترامب، ويراهن على فرصه مع مسعاه لحجب فرص الآخرين من أي منافسة حقيقية، مع استمرار مواجهة المدعي العام الأمريكي ألفين براغ في مانهاتن، ونيويورك لتحقيق مكاسبه الأولى في المواجهة الحالية، والانتقال منها إلى معركة الانتخابات الرئاسية، وهي الأهم والأخطر له في المدى المتوسط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة