لا يزال الانقسام في مجموعة العشرين دون توافقات بالحد الأدنى لتداعيات الحرب الأوكرانية على الاقتصاد العالمي، في وقت يرتفع التضخم وتضعف آفاق النمو.
يأتي هذا وسط تحذيرات من أن الفشل في التوصل إلى توافق في مواقف دول أوروبا قد يكون مؤثرًا على البلدان منخفضة الدخل، خاصة مع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، وهو ما برز مؤخرًا في اجتماعات "بالي"، إذ تسعى الأطراف الأوروبية المختلفة لتحقيق مصالحها والبحث عن البديل الآمن، وهو ما سيمثل تحديا كبيرًا لها في الأشهر المقبلة مع دخول فصل الشتاء، الأمر الذي تتحسب له أوروبا من الآن، وتضع سيناريوهات متعددة للتعامل مع تداعياته منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
لهذا فإن الرهانات تدفع لاستمرار الأزمة خلال العام المقبل، وحتى عام 2024.. إضافة إلى أن هناك مخاوف حقيقية من تحويل الإمدادات الغذائية بعيدًا عن البلدان الفقيرة وتوجيهها إلى الدول الأكثر ثراءً.
خلال الفترة الأخيرة ارتفعت أسعار الغاز الأوروبي ككل، خاصة مع التحول في تسعير الغاز، باعتباره متطلبا هاما وضروريا، وقد ارتفع سعر العقود الآجلة للغاز الطبيعي الهولندي -الغاز القياسي للسوق الأوروبية- إلى نحو 175 يورو لكل ميجاوات/ساعة ليصل إلى ضعف السعر قبل شهر تقريبًا، وذلك بعد تراجع كميات الغاز، التي تضخها روسيا إلى أوروبا عبر خط "نورد ستريم 1".
ورغم وجود استثناءات عديدة في حزمة العقوبات على روسيا، فإن الاتحاد الأوروبي يرى أن الحظر المفروض على الواردات النفطية الروسية، بالإضافة إلى تحرك ألمانيا وبولندا الطوْعي لوقف واردات خطوط الأنابيب، سيسمح له بخفض واردات النفط من روسيا بنسبة 90%.
ومن المقرر أن تتوقف إمدادات الغاز من روسيا إلى ألمانيا لإجراء أعمال الصيانة المقررة في خط أنابيب "نورد ستريم 1"، المار عبر بحر البلطيق، وهو أهم رابط من أجل تدفقات الغاز الطبيعي إلى ألمانيا.
ومع ذلك، فإن هناك هواجس عديدة من احتمال عدم عودة إمدادات الغاز، خاصة بعد أن فرضت الدول الأوروبية سلسلة عقوبات على روسيا طوال الفترة الماضية.
ويجري حاليًّا استخدام نحو 40% من الطاقة الاستيعابية لخط الأنابيب، ما أدى إلى مزيد من الزيادات في الأسعار في سوق الغاز، كما تتزايد المخاوف من أن أي فقدان مُفاجئ لإمدادات الغاز ستكون له آثار مكلفة على نمط حياة الأوروبيين.
إن استمرار النقص في واردات الغاز الروسية وعودة الطلب في الصين، بعد الإغلاق المرتبط بفيروس كورونا، يعنيان أن إعادة ملء مواقع تخزين الغاز الأوروبية للعام المقبل ستكون عملية صعبة، لهذا ستضطر الدول المعتمدة على استيراد الطاقة للعودة إلى الفحم.
وقد بدأت ألمانيا والنمسا وهولندا إعادة تشغيل محطات الطاقة العاملة على الفحم للحد من استخدام الغاز الطبيعي الروسي.. كما تستعد بعض دول أوروبا، ومنها فرنسا، لوقفٍ كاملٍ لإمدادات الغاز الروسي، ما تعتبره الاحتمال الأكثر ترجيحًا في خططها المستقبلية، حيث يأتي نحو 17% من إمدادات الغاز لفرنسا من روسيا، وترتب الحكومة خططًا بديلة، ومنها خفض الأسر والشركات استهلاك الطاقة، مع إنشاء بنية أساسية جديدة، مثل منشأة عائمة لإعادة الغاز المُسال -الآتي من الخارج- إلى حالته.
ومن المقرر أن تناقش دول الاتحاد الأوروبي خطط الطوارئ لفصل الشتاء خلال اجتماع يوم 26 يوليو الجاري، في محاولة لضمان توفر احتياطي غاز كافٍ يلائم ذروة الطلب على التدفئة والطاقة.
في مقابل ما يجري أوروبيًّا، فمن الواضح أن روسيا تستخدم سلاح الغاز ضد أوروبا سعيًا لتقويض الدعم الأوروبي لأوكرانيا.
وإزاء التحذيرات والإشارات المقلقة، يسعى القطاع الصناعي الأوروبي بكل الوسائل للحد من استهلاك الطاقة.
واضح أن روسيا تناور في مساحات كبيرة لتوظيف ملف الغاز بصورة ضخمة ومؤثرة في مواجهة فرض العقوبات الاقتصادية عليها، والتي لن تؤتي ثمارها قبل أشهر، وربما أعوام، مع استمرار حالة الحرب الروسية-الأوكرانية، وعدم وجود اتجاهات محددة يمكن القياس عليها في ظل ما يجري من عمليات عسكرية، قد تطول، وترقُّب كل طرف ما هو قادم من تطورات في إطار لعبة شد الأطراف، وعدم وجود آليات محددة للتوصل إلى نقطة توافق يمكن أن توقف الحرب.
لذا سيعمد كل طرف لتوظيف كل ما لديه من أوراق ضغط لتحقيق الحد الأقصى من مصالحه، وسط عدم تضرر كل دول أوروبا بالقدر نفسه في ملف الطاقة، وهو ما يجعل الدول الكبيرة المتضررة تتحرك في اتجاهات متعددة كسبًا للوقت، وتخوفًا من الوصول إلى أزمة حقيقية يمكن أن تؤثر في نمط الحياة الأوروبية، إذ يجري البحث عن حلول جذرية، وليس جزئية، فيما تدرك روسيا أن الدول الأوروبية لن تستطيع أن تحصل على البديل الكامل من عشرات الخِيارات، والتي تحتاج إلى مزيد من الوقت والتعامل، ومن ثم فإن رهانات موسكو تُبنى على الاستمرار في الضغط المفتوح، وصولا إلى أهدافها الكاملة، ما دامت الدول الغربية ماضية في منهج المواجهة والاستمرار في فرض العقوبات، التي يتضرر منها الاقتصاد الروسي بالفعل.
ومع استمرار الضغط الأمريكي في أكثر من اتجاه، فإن الدول الغربية الأكثر تضررًا ستتفاعل مع ما يجري، تجاه فتح الأسواق البديلة، إذ تحتاج إلى اتفاق في السياسات الجماعية، وليست الفردية، وسط تأكيد للمصالح العليا، التي يمكن أن تكون مدخلا لما هو آتٍ من سياسات من قبل كل طرف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة