لم يفارق ذهني منذ 15 عامًا قرطاس "الطعمية"، الذي علّمني قراءة كل ورقة تقع في يدي، خاصة الأرقام التي تُشبع رغبتي في البحث عن الحقيقة.
الأرقام لا تكذب.. صحيح، لكنها أيضًا للأسف "لا تقول الحقيقة".
الحقيقة أن الحديث عن الطعمية "الفلافل" -أو بالأدق "اقتصاد الطعمية" إنْ جاز التعبير- هو صميم الاقتصاد العالمي في 2022، حيث الحرب التي اتخذت من القمح والذرة والزيوت وباقي سلة الغذاء أسرى يبحثون عن طريق آمن للخلاص من أجل إنقاذ العالم من مجاعة تبدو في الأفق.
في الأفق هناك ضباب وغيوم اقتصادية، كالتي حملها تقرير الشبكة العالمية لمكافحة الأزمات الغذائية، التابع للأمم المتحدة، حول أزمة الغذاء، كاشفًا عن استمرار ارتفاع عدد الأشخاص، الذي يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد ويحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة منقذة للحياة ودعم سبل العيش، وذلك بمعدل ينذر بالخطر.
الخطر الأكبر كما يبدو لي في الشبكة العالمية لمكافحة الأزمات الغذائية -تحالف دولي يضمّ الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجهات الحكومية وغير الحكومية التي تعمل على معالجة الأزمات الغذائية معًا- هو الدعوة إلى حشد المجتمع الدولي لمواجهة "الاتجاهات المقلقة" في انعدام الأمن الغذائي الناتجة عن عوامل عدة تتغذَّى على بعضها، بدءا من الحرب الأوكرانية إلى الأزمات البيئية والمناخية والصحية، إضافة إلى الفقر.
الفقر في التقرير يكشف أرقاما مفزعة، إذ إن نحو 193 مليون شخص في 53 دولة أو منطقة بلغوا نقطة "انعدام الأمن الغذائي الحاد" على مستويات أزمة أو أكثر، ما يمثل زيادة بنحو 40 مليون شخص، مقارنة بالعدد القياسي المحقق في عام 2020، مع وجود وباء كورونا.
بين كورونا والحرب زحامٌ مزعجٌ من الأرقام السلبية يكشف أن "اقتصاد الطعمية"، الوجبة الاقتصادية عالية التوفير في مجتمعات عدة، قد تأثر بالحرب وصعدت "وجبة الغلابة" بنسب متفاوتة بين 5 و100% في كل من السودان واليونان ولبنان وسوريا والعراق ومصر، سواء كان اسمها "فلافل" أو "طعمية"، أو "الباجية" في اليمن، أو الـ"جرين بيرجر" في رواية أخرى لا تعرف الفقر ولا تلتفت إلى أرقامه المؤلمة.
المؤلم حقًّا أنه رغم التراجع في متوسط مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الأغذية في يونيو 2022، بـ2.3%، عن مستواه المسجّل في مايو، مسجّلًا بذلك انخفاضًا للشهر الثالث على التوالي، وإن كان لا يزال مرتفعا بفعل الحرب، لم ينزل سعر "وجبة الغلابة" –الطعمية- رغم تراجع أسعار الحبوب 4.1% في يونيو أيضًا عن مستواها المسجّل في مايو، وإن كان لا يزال أعلى بـ27.6% عن مستواه في يونيو 2021.
يونيو نفسه -لكن في عام 2007- حمل لي موقفًا غيّر مسار حياتي المهنية، حين كان الدكتور محمود محيي الدين وزيرا للاستثمار في مصر، وكان معروفًا عنه الدبلوماسية في الردود على كل صحافي مشاغب، إذ سألته وقت الإعلان عن ملتقى للاستثمار في مصر: لماذا لا يشعر المصريون بمعدلات النمو الهائلة للاقتصاد؟
فباغتني وقتها بسؤال عن معدل التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية.. فكانت إجابتي صحيحة، 2.6%، ليحوّل الموضوع بذكاء، بل زاد من المراوغة اللطيفة متسائلا عن مصدر الرقم، فقلت له: "قرطاس طعمية"، حيث قرأت الرقم فعلا، فضجّت القاعة ضحكًا دون رد من الوزير على تساؤلي.
الخلاصة أن الحديث عن أبسط الوجبات من حيث التكلفة في عدد كبير من المجتمعات العربية وغير العربية أيضًا، ما هو إلا جرس إنذار بما تفعله الحرب في الشعوب، إذ لا تفرق بين اقتصاد قوي وآخر ضعيف، ولا بين تكتل دولي مرموق وإقليم منبوذ.. الحرب الأوكرانية قد تعيد تشكيل اقتصاد العالم من جديد كما ستغير أنماط الاستهلاك لدى الشعوب والحكومات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة