على حين غرة، خرج المسؤول الأول عن الشؤون الخارجية والتعاون الأمني في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بتصريحات مثيرة عن علاقة أوروبا بجوارها الجغرافي.
واعتبر "بوريل" أن القارة القديمة "حديقة يانعة الأزهار"، فيما العالم من حولها "غابة مليئة بالأحراش"، وقد جاء ذلك خلال افتتاح الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية الجديدة في بلجيكا قبل أسابيع.
يعنُّ للمرء في شرقنا الأوسط أن يتوقف متسائلا عمَّن يقصد "بوريل"، ولن يجد أمامه سوى العالم القديم المجاور جغرافيًّا، والمُحاور تاريخيا، المتمثل في العالم العربي، وشمال أفريقيا بنوع خاص، سيما أن القارة الأوروبية، ليست مقصد هجرات آسيوية ولم تكن كذلك من قبل.
كيف لنا أن نصف مثل هذه التصريحات، والتي يمكن اعتبارها ضربًا من ضروب الانتكاسة الحضارية، والرِّدة الإنسانوية على تراث التنوير الأوروبي العتيد؟
تاريخيا، تظل العلاقة بين أوروبا والعالم العربي، ودول شمال أفريقيا، علاقة فريدة، مغرقة في القدم، وهي حصيلة القرب الفريد بحكم الطبيعة والتضاريس أولا، ومن منطلق التجارب البشرية عبر القرون الغابرة ثانيا، وقد أطلق العرب على البحر الأبيض المتوسط، البحر الكبير، الواصل أحيانا، والفاصل أحيانا أخرى، بين العرب والأفارقة والأوروبيين، وإنْ ظل في كل الأحوال مجالا متسعا مشتركا، لم يقدر لأحدهما تجاهله أو إنكاره.
يُدهش المرء من دعوات الردّة الحضارية لـ"بوريل"، ذلك أنه عوضا عن أن تكون أوروبا في مخيلته حديقة غناء، تملأ جوارها الإقليمي بموجات العيش المزدهر، وبأريج زهور الحضارة العريقة، يذهب وكأنها صاعدة في عالم يقيم الجدران عوضا عن الجسور.
تاريخيًّا يمكن القطع بأن أوروبا لعبت دورا مهما وحيويا في مراحل نشوء وارتقاء الجماعات الإنسانية، الكبرى منها والصغرى، وألغت الحدود بين الثقافات بعرض أفكارها وتقنياتها في بقاع العالم.
وقد أصبح لـ"فولتير وروسو وأوغست كانط"، وكارل ماركس، أنصار في كل أنحاء المعمورة، وعبر اللغات المكتوبة والمنطوقة.
تبدو أوروبا، التي يتكلم باسمها "بوريل" اليوم مغايرة طولا وعرضا، شكلا وموضوعا، لأوروبا ذات التجربة الفريدة في التاريخ البشري، تلك التي اشتبكت تاريخيا وذهنيا مع العالم القديم، من خلال كتابة تاريخ كل شعب وأمة، بفضل اكتشافها علوم التاريخ والاجتماع، وهي التي بعثت الحضارات والقوميات من سُباتها، وفي كل مكان من العالم استُخدمت أدوات أوروبا العلمية والمنهجية لمحاربة هيمنتها.
يعنُّ لنا ونحن في مقام تفكيك جدلية "الحديقة والغابة"، أن نتساءل: هل كان في خلفية "بوريل" العودة مرة جديدة إلى فكرة المركزية الأوروبية؟
جوهر هذا الطرح الفكري يتمحور كطريقة إمبريالية للسيطرة على تبادل الأفكار، وذلك لإظهار تفوق منظور واحد وإظهار مقدار القوة، التي يمتلكها الطرف الأوروبي، في مواجهة مختلف المجموعات الاجتماعية.
هذا التوجه العقلي له مرجعيات من قبل كبار الفلاسفة الأوروبيين، فعلى سبيل المثال نجد الفيلسوف الألماني الكبير، جورج هيجل، ورغم اعترافه بأن تاريخ العالم بدأ في الشرق، فإنه يُقرُّ بانتهائه في الغرب، الأمر الذي يكاد يجعل منه صاحب الأساس الفكري، الذي بَنى عليه عالم السياسة الأمريكي الشهير فرنسيس فوكوياما رؤيته لنهاية التاريخ.
يبدو "بوريل" في جدليته الجديدة قريبًا من رؤية الشاعر الإنجليزي الشهير روديارد كبلنج، وصيحته التاريخية عن عَلاقة الشرق والغرب، المحكومَين بجبرية تاريخية، وبأقدار فوقية بعدم الالتقاء.
لكن أي مثقف عربي، أو شمال أفريقي، قادر على أن يُحاجج السيد "بوريل"، ويُظهر رؤيته المنحولة، ذلك أن أوروبا اليوم ليست هي قارة التنوير، الذي كان في عصور النهضة، من السابع عشر وصولا إلى التاسع عشر.
إن الحديقة التي يفاخر ويجاهر بها "بوريل"، هي التي صدّرت الموت للعالم، عبر نزعات متطرفة، نتج عنها حركات عنصرية كالفاشية والنازية، قادت العالم إلى حربين عالميتين، حصدتا أكثر من ستين مليونا من الضحايا.
أوروبا باتت مهددة ديموغرافيا، جراء نقص عدد سكانها، إذ تُفضِّل أجيالها المعاصرة عدم تحمل مسؤولية وتبعات الزواج وتكوين الأسرة، ما ولَّد حالة مخاوف عميقة تجاه المستقبل وملامحه، والخوف من أن يصحو الأوروبيون ذات نهار ليجدوا "حديقتهم" مفرغة من البشر.
وبالقدر نفسه، ومن سوء الطالع، تتحول القارة العتيقة من أطر الأنوار، التي تضيء للعالم، إلى عالم الأنوار العلمانية المتطرفة والمتشددة التي تُعمي، والأقرب إلى تصدير الشموليات تحت رايات حقوق الإنسان، والحريات المنفلتة، والديمقراطيات الغنَّاء.
في كل الأحوال، فإنه يمكن للمرء أن يستفيض في نقد التجربة المركزية الأوروبية، التي يخشى عليها السيد "بوريل" من سكان "الغابة"، لكن في اختصار غيرِ مُخلٍّ نقول إن أوروبا -وإنْ لم تعُد تمتلك حجر الفلاسفة- فإنه يبقى هناك ما يميّزها عبر الرجال والمرجعيات.
من هؤلاء الرجال البابا فرنسيس، الذي تحدّث في زيارته الأخيرة لمملكة البحرين، عن الوِحدة التي لا تغلقنا في التطابق، بل تعدنا لكي يقبل بعضُنا بعضا في الاختلاف.
ومن الشرق الفنّان، جاء صوت الإمام أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وموضحًا حاجة الشرق والغرب إلى بعضهما، من غير فوقية إمبريالية، ودون مُحاصصات عرقية أو طائفية.
الخلاصة.. هذا وقت العقلاء للدعوة للوفاق ولإزاحة غيوم الافتراق.. الجسور لا الجدران هي الحل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة