الافتراض بأن الأزمة في لبنان سوف تمضي في طريق الحل بانتخاب رئيس جديد، مفرط في التفاؤل.
القوى التي تحول دون انتخاب رئيس، إنما تتسلَّى بالوقت الضائع، لكي تتحاشى مواجهة المشكلات الجوهرية الأخرى.. وهي المشكلات، التي يُفترض أن يبدأ الرئيس الجديد يوم عمله الأول بها، ليجد نفسه أمام وضع يُجبره إما على مواجهة الذين انتخبوه، وإما مواجهة الذين لم ينتخبوه، أو مواجهة نفسه بالسؤال عما إذا كان انتخابه "خطيئة" ارتكبها بحق نفسه.
"حزب الله" يريد رئيسا لا يهش ولا ينش حيال قدرته على تعطيل الحكومة.
الزعمُ المُعلن هو أن هذا الحزب يريدُ رئيسا لا يشكل تهديدا لسلاحه، ولا يسأل من أجل ماذا هذا السلاح، أو أين يشتغل على أرض الواقع، ولكن حتى هذه القضية نفسها، هي مجرد قناع لهيمنة الحزب الإرهابي على الدولة اللبنانية وقرارها ومصيرها، بما في ذلك مصيرها الاقتصادي.
ما يجعل هذا الحزب مرتاحا في لعبة الوقت الضائع هو أن له موارده الخاصة القائمة في جزء كبير منها على نهب موارد الدولة من خلال اقتصاد موازٍ خاص به، فضلا عن تمويلات خارجية تقدمها المليشيات، وفضلا عن الموارد التي توفرها منظومة التهريب وتجارة المخدرات.
بمعنى أوضح، فإن ما يدفع اللبنانيين إلى العيش في قاع الجحيم، لا يعني الحزب لا من قريب ولا من بعيد. ما يعنيه هو سلطته على الدولة. وما قصة "سلاح المقاومة" إلا قناع يُخفي ما تحته.
وهب جدلا أن يتم انتخاب رئيس يوافق على بقاء سلاح "حزب الله" الإرهابي في يده، بل وأن يتحول جنوب لبنان إلى ترسانة صواريخ عابرة للقارات، فهل سوف يؤدي ذلك إلى قبول الحزب بتنفيذ الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي؟
لو كان الجواب نعم، لكانت السنون الأخيرة من عهد الرئيس "عون" كافية لبدء تنفيذ هذه الإصلاحات.. ولكن ذلك لم يحصل، لأن تحالف "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" لم يوافق على شروط صندوق النقد.. كما لم يوافق على شروط مؤتمر "سيدر" نفسه -2018- الذي وعد بتقديم مساعدات للبنان تزيد على خمسة أضعاف ما وعد به الصندوق مقابل إقرار "استراتيجية لمكافحة الفساد".
ولكن الفساد هو الذي وضع استراتيجية لإحباط بقاء الحكومة نفسها.. فتعطّلت، وظلت تتعطّل، حتى تجاوز السيلُ الزُّبَى بانفجار مرفأ بيروت، 2020.
إعادة هيكلة القطاع المصرفي، مع ضمان حقوق المودعين الصغار، تعني إلغاء حقوق "المودعين الكبار" وملاحقة تحويلاتهم إلى الخارج.
الإيداعات على الورق تبلغ نحو 100 مليار دولار. وما هو موجود بالفعل منها لا يزيد على 10 مليارات دولار. وإلغاء كل الديون، لأجل "تصفير" التزامات المصارف، ووضع أموال المساعدات في إطار رقابة مصرفية يشرف عليها صندوق النقد، سوف يحرم المتحكمين بمفاصل الدولة من العودة إلى نهب الدولة من جديد، وهو مصدر عيش رئيسي بالنسبة لهم.
وسواء تم إيجاد تسوية لمسألة مَنْ يتحمل ماذا وكم من الأموال الضائعة، أم لا، فإنه دون إصلاح النظام المصرفي وإخضاعه للرقابة، فالمساعدات لن تأتي، ووجود رئيس سوف يُصبح مثل عدم وجوده.. فلأجل أن يكون الرئيس مفيدا، فإنه يحتاج أن يكون قادرا، الى جانب رئيس الحكومة، على فرض الإصلاحات فرضا. فينقلب عليه الخاسرون، ويبدؤون السعي لإحباط سلطته، واختلاق الازمات له وللحكومة.
البنك الدولي يقول إن الخسائر المالية، التي يعاني منها لبنان، تبلغ 72 مليار دولار، وهي تعادل ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي له لعام 2021.
والسؤال هو: ماذا يعني وجود رئيس لا يستطيع إعادة هيكلة القطاع المصرفي؟ ماذا يعني وجوده في ظل نسبة تضخم تزيد على 1400 بالمئة؟ ثم من أين يأتي بالمال، إذا كان بيع، أو استثمار، كل موجودات الدولة، لا يعوض إلا جانبا محدودا من هذه الخسائر؟
الرئيس نجيب ميقاتي يقول "إن الواقع الاقتصادي اللبناني المرير وفداحة الأزمة المالية يقفان شاهدين على ضرورة وأهمية وضع استراتيجية ومشروع متكامل لتبني إصلاحات بنيوية".
والإصلاحات البنيوية، إذا أخذتها بمعناها الفعلي، إنما تعني إعادة بناء النظام السياسي، وليس النظام المصرفي وحده. أو بمعنى آخر: إعادة بناء الدولة نفسها.
هذا الوضع لا يحتاج إلى أن تعثر على رئيس يحمل عصا موسى، فيشق بحر الفساد فلقتين.. إنه يحتاج إلى انهيار شامل، لكي يمكن من بعده إعادة بناء النظام.
الانهيار الشامل هو الرئيس المنتظر، مطلوبا كان أم غير مطلوب. والذين يلعبون بالوقت الضائع، إنما يتسلَّون بانعقاد جلسات للمجلس النيابي لكي تكرر المماطلة نفسها، أسبوعا بعد أسبوع.. لأنهم يعرفون، في الواقع، أن المشكلة ليست مشكلة وجود أو عدم وجود رئيس.. إنها مشكلة القناع وما تحته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة