المشهد الثقافي العربي في العقد الأخير أصبح ساحة للابتزاز من جميع الأطراف والقوى السياسية، وغير السياسية، فلم تعد هناك حجة ولا برهان.
عندما يفقد الإنسان الحجة يلجأ إلى الحيلة، وعندما تكون حجته ضعيفةً يكون صوته قوياً، وعندما يدرك أن حجته غير منطقية ولن يقبلها عقل يطرق أبواب العواطف مستجدياً تارة، ومبتزاً تارة أخرى… في كل الأحوال لن يعدم الإنسان وسيلة لتسويق فكرته، وتسويغ رأيه، وحشد الناس لتأييد موقفه، كل هذا لا يمثل مشكلة لأنه سلوك طبيعي يستخدمه الطفل حين يبكي ليستدر عطف أمه، ويستخدمه المتسول في الطرقات العامة ليستجدي عطف الناس عليه، ويستخدمه المشعوذون والشطَّار والنصابين؛ ولكن أن يكون المشهد الثقافي في معظم المجتمعات العربية يسيطر عليه خطاب سياسي وديني وقومي قائماً على هذه الأساليب غير المنطقية وغير العقلانية فتلك هي الكارثة عينها.
منذ "ثورات الخريف العربي" ٢٠١١ والمشهد الثقافي أصبح ساحة للابتزاز من جميع الأطراف والقوى السياسية، وغير السياسية، فلم تعد هناك حجة ولا برهان، ولا دليل على أي كلام يُقال، ولم يعد هناك منطق في التفكير، ولا منهج في تناول الموضوعات، ولا علاقة بالواقع في كل الصراعات، أصبحنا نعيش في عالم من الحقائق اللغوية التي لا علاقة لها بحقائق الواقع، أصبح العالم هو كميات هائلة من الكلمات التي تتبخر في الهواء، ونادرٌ من يعبر تعبيراً حقيقيا عن الواقع الاجتماعي في العالم العربي.
وفي ظل هذه العوالم المتصارعة بين "الكلامنجية" في وسائل الكلام التي هي الفضائيات والصحف، في ظل كل هذا تشكلت قناعات ورؤى قطاعات واسعة من الشعب؛ خصوصا الشباب ضعيف الثقافة بصفة عامة؛ ومعدوم الثقافة السياسية بصفة خاصة، ودخلت هذه القطاعات الأمية سياسيا؛ ونصف الأمية ثقافيا في معترك العملية السياسية، وأصبحوا جميعاً نشطاء سياسيين، ويكفي الواحد منهم أن يستطيع الكتابة بأخطاء لغوية مذهلة، وأن يكون له حساب على الفيسبوك أو التويتر، يكفيه هذا ليكون مفكراً سياسيا فطحلاً، ويتخذ من المواقف ما تردي به وبأهله ووطنه إلى هاوية الهلاك.
وفي هذه البيئة الثقافية والسياسية الكلامية تتلاشى الحقائق الواقعية أمام الحقائق الكلامية المتوهمة، ويصبح من الصعب استخدام الحجة والدليل في الإقناع، ويتحول الحوار إلى جدال وسفسطة بين المثقفين، ويسعى كل طرف لحشد الجماهير خلف رأيه، ودفعهم لتأييده. هنا تظهر استراتيجيات الابتزاز، وهنا ينجح المبتزون في استجداء تعاطف الشعب أولاً، ثم استلاب تأييده، ثم سرقة إرادته، وأخيرا تكفيره أو تخوينه؛ إن هو استخدم عقله أو فكر، أو حاول أن يسلك غير طريقهم، أو ينحرف عنه قيد أنمله، هذه الاستراتيجية الشيطانية تستخدمها جميع الأطراف، ويوظفها تجار الكلام من الإعلاميين ودعاة التدين السياسي، ويقع ضحيتها في النهاية جماهير الشعب التي دخلت المجال السياسي فجأة وبدون سابق إعداد أو استعداد.
وللابتزاز في لغتنا دلالات تصف بمنتهى الدقة حالنا اليوم في العالم العربي، فاللفظ مشتق من السلب والاستيلاء، ومن لباس الحرير، وكأنه يقول لنا إن الابتزاز هو أن تسلب، أو تسرق من الإنسان لباسه الذي يستره، وتتركه عارياً، أو أن تسرق منه إرادته التي تعطيه صفته الإنسانية، وتتركه بلا عقل أو إرادة أي عارياً أيضاً.
ومع تصاعد الخطاب السياسي الذي يوظف الدين ورموزه تصاعدت عمليات الابتزاز، فأصبحت المواقف السياسية العادية التي تعبر عن رأي صاحبها تأخذ صبغة دينية لأنها تحقق مصلحة من يحتكرون تجارة الدين، وكذلك القرارات السياسية التي تعكس مصالح النخب والدول تُلقى عليها قدسية دينية إن كانت صادرة من أنصار تجار الدين مثل أردوغان ومن سار في ركبه، وينزع عنها الدين وتلقى في مهاوي الكفر والضلال إذا كانت ضد مصالحهم تركيا وتوابعها العربية.
وعلى الجانب الآخر كان الابتزاز باسم العروبة أشد قبحا، لأنه أصبح وسيلة لكل الفاسدين وسارقي قوت الشعوب، وكل من مارس النفاق على مدى عقود من الزمن، أصبح هؤلاء يستخدمون مفاهيم وقيم القومية والوطنية وسيلة للابتزاز، حتى صارت الرموز الوطنية والقومية جواز مرور لكثير من الفاسدين والمفسدين، وصار من يقف في وجه هؤلاء خائنا وعميلاً.
وقد اجتمع الابتزاز باسم الدين والعروبة في قضية فلسطين، وتم توزيع المهام بين الفاعلين المتصدرين للقضية الفلسطينية، بعضهم يبتز باسم الإسلام والآخر باسم العروبة. فقد دمر حزب الله لبنان وساهم بنصيب كبير في إفشال بنيته المؤسسية، وتفكيك بنتيه المجتمعية بفعل قوة الابتزاز باسم فلسطين، وجاءت بعده حركة حماس تمارس نفس الابتزاز المالي والسياسي والتنظيمي، وأخيرا انضمت إليهم جماعة الحوثي التي دمرت اليمن وتسببت في كل المآسي التي حدثت لشعبه بعد خروج علي عبد الله صالح من السلطة، كل ذلك تحت شعار فلسطين واليهود ومن وراءهم. وعلى الجانب الآخر مارست النظم والأحزاب العربية الابتزاز باسم العروبة لتحرير فلسطين، وارتكبت كل المآسي على شعوبها، وهناك نماذج هي خير شاهد على ذلك الابتزاز الذي قاد في النهاية الى تدمير الدول وليس تحرير فلسطين.
المخرج الوحيد هو التحرر من عقلية الابتزاز والانتقال إلى التفكير العقلاني الرشيد، والقراءة الاستراتيجية العميقة للواقع، عند ذلك تنضج المواقف والقرارات، وتكون أكثر قربا من الرشد ومن تحقيق مصالح الشعوب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة