سقطت دمشق وانهار النظام الحاكم هناك، وباتت إيران منكشفة في سوريا. نعم إيران هي الخاسر الأكبر وربما الأوحد من سقوط دمشق وانهيار نظام حكم بشار الأسد.
بالتأكيد خروج بشار الأسد والنخبة المحيطة به من الحكم، يمثل خسارة شخصية لهم كأفراد. لكن الأهم والمقصود بالحديث هنا هو الطرف الخاسر من الدول والكيانات والشعوب. وفي المدى القصير، لا شك أن إيران هي الخاسر الأكبر من سقوط نظام بشار وهيمنة المعارضة المسلحة على الأوضاع هناك.
ولا بد هنا من استذكار أن إيران كانت هي المستهدف في الأساس من الزحف الذي قامت به تلك المعارضة السورية المسلحة على المدن الرئيسية خلال الأيام الماضية. ولم يكن ذلك هدفاً حصرياً لتلك المعارضة وحدها، فالنفوذ الإيراني في الأراضي السورية كان يثير حفيظة أطراف عدة إقليمية وعالمية. وليست تلك الأطراف محصورة في عدوَّي طهران، الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، بافتراض أنهما عدوان لها.
فبقليل من التدقيق في خريطة التحالفات والعداوات في الإقليم، وفي الملف السوري على وجه الخصوص، يمكن اكتشاف أن الحلفاء في سوريا لم يكونوا "حلفاء" بالمعنى البسيط للمفهوم. فروسيا وإيران ليستا في تحالف مطلق في سوريا أو خارجها. وإنما بينهما تباينات في المصالح والأهداف المبتغاة في ملفات كثيرة، رغم ما تشهده تلك الملفات من تنسيق عالٍ وتعاون كبير بينهما، ومن أبرزها الأزمة في سوريا.
ويمكن تفسير ذلك التباين بشكل أساسي في رغبة الطرفين بحصر التفاهم بينهما فيما لا ينتقص من نفوذ وأهمية دور كل منهما لصالح الآخر. إنها علاقة أشبه بتصميم وآلية عمل "المقص" الذي لا يمكن فصل طرفيه، ولا يعمل أحدهما دون الآخر، ثم في النهاية يتقاطعان. وتكفي الإشارة إلى موقف موسكو من الضربات الموجعة التي تعرضت لها أهداف إيرانية داخل سوريا، عسكرية وسياسية. فقد التزمت روسيا دائماً "الحياد السلبي" المطلق الذي يمثل في التحليل النهائي قبولاً وعدم ممانعة.
وفي المقابل، كان نفوذ إيران السياسي وتدخلاتها المبالغ فيها أحياناً بالشؤون الداخلية السورية، مثار استياء داخلي خصوصاً على المستوى المجتمعي، وتحديداً في المناطق التي تعرضت لعمليات تطهير عرقي وتغيير ديمغرافي وإقصاء طائفي، بترتيب غير رسمي ورعاية وتمويل إيراني.
ومن جانبها، فإن المعارضة المسلحة، وأهمها حالياً "هيئة تحرير الشام" المتكونة أساساً من قوام "جبهة النصرة" المنحلة، لم تكن تستطيع القيام بالزحف الكبير والاستيلاء على تلك المدن الكبيرة، إدلب وحلب وحماة وحمص ثم دمشق، ما لم تكن إيران في أضعف حالاتها. بعد انكسار ذراعها القوية في لبنان، وتعرض أهداف حيوية لها في سوريا لضربات قوية أضعفتها وكسرت إرادتها وليس فقط قدراتها ونفوذها.
وقد أدركت المعارضة المسلحة في سوريا مغزى ذلك الانكسار الإيراني، وأحسنت استغلاله، حيث قرأت فيه تلك المعارضة والأطراف الراعية لها، أن شبكة إيران الإقليمية، أصبحت هشة وتواجه خطر التفكيك. ما يمثل لتلك الأطراف فرصة ذهبية لملء الفراغ وتوسيع المساحات الجغرافية والجيواستراتيجية الخاضعة لسيطرتها، وتقليص أقصى ما يمكن من وجود ونفوذ إيراني سواء مباشر أو غير مباشر.
إذن يمكن اعتبار إيران، بصفة خاصة، أكثر الأطراف تضرراً وأكبرها خسارة مما حدث في سوريا، بل وما سيحدث في المستقبل القريب. وخسائر طهران ليست محصورة في نطاق الأزمة السورية ذاتها، لكنها تمتد أيضاً إلى مستوى الإقليم ككل. فكما هو معروف كل تطورات وملفات الشرق الأوسط تؤثر في بعضها كالأواني المستطرقة.
فقد عملت إيران في الأعوام بل العقود الماضية، على نسج شبكة تحالفات وأذرع إقليمية أقرب إلى شبكة العنكبوت متقاطعة الخيوط. وبعد قطع ذراع إيران في لبنان "حزب الله" أصبح تدمير منظومة نفوذها في سوريا مسألة وقت. وبالتأكيد لن تكون بقية خيوط شبكتها الإقليمية، في العراق واليمن، أشد قوة أو أكثر صلابة. وقد تحتاج طهران إلى عقود من الزمن والعمل الدؤوب قبل أن تتمكن من بناء شبكة مماثلة مرة أخرى، هذا إن استطاعت.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة