إرادة الإنسان،في مواجهة جوائح كانت أشد وطأً في عصوره السابقة. أفلا يكون أهلا لذات المستوى من الإرادة والأمل في مواجهتها اليوم؟
قضينا رمضان هذا العام تحت وطأة ظروف استثنائية، وإجراءات صحية ملزمة بما لم نعتد عليه من طقوس الشهر الكريم وعاداته الجميلة.
فقد حل التباعد محل اللقاء، والحجر المنزلي محل الزيارات العائلية والمناسبات الاجتماعية؛ فصرنا –والحكمة تقتضي أم نظل كذلك خلال أيام العيد-كما يقول ابن زيدون في قصيدته:
أضْحَى التّنائي بَديلاً منْ تَدانِينَاّ وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا.
وتطل علينا بشائر العيد، اليوم الذي اقتضت حكمة الله ورحمته بعباده أن يكون يوم فرح بفضله ونِعمه؛ وتوسعة على الناس جميعا، كيفما كان الحال ومهما تكن الظروف؛ ويوما لتسلم جائزة العبادة في شهر الصيام... وهو لذلك محطة أمل ومناسبة استبشار بالمستقبل.
ولأن نهاية كل مرحلة هي محطة ضرورية للمراجعة والتقويم، والنظر بعين المعتبر فيما مضى؛ كان مفيدا أن نسأل عن فوائد هذه المرحلة قبل أن نتذكر أعباءها؛ ونقدر منحها التي جاءت في طي محنة عمت الناس أجمعين.
لعل المراحل المشابهة من تاريخ الإنسانية، تعلمنا دروسا كثيرة عن الكيفية التي تحفز بها إرادة الإنسان
لقد انتبه ابن خلدون وهو يتعامل مع ظروف مشابهة في عصره، إلى هذا المعنى، وأثبته في مقدمته. حين وصف آثار طواعين عام 749هـ، ثم علق بقوله: "وإذا تبدلت الأحوالُ جملةً، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحوّل العالم بأسره، وكأنه خلقٌ جديدٌ، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحدَث. فاحتاج لهذا العهدِ من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها..." في إشارة ملهمة إلى الواقع الجديد بعد الأوبئة، وأهمية رصده والإفادة من دروسه، وارتياد الآفاق التي تنفتح بعده.
ولعل المراحل المشابهة من تاريخ الإنسانية، تعلمنا دروسا كثيرة عن الكيفية التي تحفز بها إرادة الإنسان، وتلهمه ألوانا من الإبداع في الحياة مع أقسى الظروف.
فكلنا يعرف ما أحدثته نظرية إسحاق نيوتن عن الجاذبية من ثورة في تاريخ العلوم، لكن قلة من تعرف أنه توصل إليها خلال حجر صحي بالريف البريطاني، استمر ثمانية عشر شهرا، بعد أن اضطر إلى الانقطاع عن دراسته في جامعة كمبريدج عام 1665 بسبب تفشي الطاعون في لندن؛ وأنه أنجز في الفترة نفسها دراسته الشهيرة حول التفاضل والتكامل.
وقليل من يعرف أن شكسبير قبله، قد ألف بعض أشهر روائعه الأدبية والمسرحية تحت الحجر الصحي، توقيا للطاعون الذي ضرب المدينة ذاتها عام 1592، وقتل أشقاءه وابنه الوحيد هاملت.
والكاتب والشاعر الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو كان بروايته المعروفة "ديكاميرون" يخلد طاعون فلورنسا عام 1348.
والأديب الفرنسي مارسيل بروست خلف لنا عمله الروائي الضخم "البحث عن الزمن الضائع" بفضل العزلة الصحية التي ألزمه بها داء الحساسية أوائل القرن العشرين؛ كما خلد بعده بسنوات قليلة الرسام إدوارد مونش إنفلونزا عام 1918 الإسبانية بلوحته "بورتريه شخصي مع الإنفلونزا الإسبانية"، وغيرهم كثير في كل العلوم والفنون، ومن كل الثقافات والأمم..
تلك هي إرادة الإنسان،في مواجهة جوائح كانت أشد وطأً في عصوره السابقة. أفلا يكون أهلا لذات المستوى من الإرادة والأمل في مواجهتها اليوم؟
وما أجدر بالإنسان المسلم خصوصا، أن يكون أعلى همة وأمضى عزما في مواجهة جائحة كورونا اليوم؛ وبوادر الخلاص منها تلوح في الأفق متزامنة مع بشائر العيد.
لقد كان رمضان طاقة معنوية هائلة، أمدت صمودنا في محنة الوباء؛ ويأتي العيد منحة تجدد التفاؤل بالمستقبل، والأمل في الله: أننا قادرون بالتوكل عليه سبحانه، والأخذ بالأسباب الصحية والالتزام بإجراءات السلامة؛ مع التراحم والتعاون والتآزر على اجتياز هذه المرحلة.
الأهم من ذلك، أن ندخل ما بعدها وقد أفدنا من دروسها، وتغيرنا إلى الأفضل. لهذا ربما كان الأنسب ألا تكون تهنئتنا بالعيد هذا العام كما تعودنا: “أعاده الله عليكم..." بل: "جعل الله عيدنا القادم خيرا من عيدنا، وعالمنا أفضل مما كان عليه قبل كورونا".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة