استفاض الفلاسفة والمفكرون في الحديث عن الكرة الساحرة، لأنها تجمع في أعماقها السعادة واللذة والتوتر والدراما والأمل.
الأدب وكرة القدم، موضوع يتجدد كلما انطلقت كرة القدم سماء ساحة الملاعب في أية بقعة من العالم، يشترك فيها الصغير والكبير، والمثقف والجاهل. ومن هنا تأتي أهميتها التي أولى لها الكتّاب والأدباء مساحة كبيرة في تفكيرهم، هل يخوض الأدباء نوعا من كرة القدم في خيالهم الخصب؟ هل يتحول الكتاب والأدباء إلى دفاع خط الهجوم؟ هذا هو جوهر هذه اللعبة التي لا يمكن أن ترى اللاعبين على شاشة التلفزيون وتغض الطرف عن رؤيتها، بل سرعان ما تنسجم مع المشهد وتتفاعل معه بالصراخ والعويل والفرح والحزن والتأوه.. وضرب كف بكّف إذ لم تدخل الكرة في الهدف.
يثير الكتاب والأدباء الأسئلة الجوهرية حولها: هل تمنع كرة القدم التفكير؟ لكنهم يؤكدون عكس ذلك، إنها تثير التفكير والعواطف والمشاعر الإنسانية. فالفكرة الشائعة أن الكتاب والمثقفين لا يميلون للرياضة، ولكن ما استعرضناه يثبت العكس
لم يعد الكتاب يعتبرون لعبة كرة القدم الأفيون الجديد للشعوب، كما كان سائدا في الماضي، بل على العكس من ذلك، إنهم يحتفلون بالروح الشعبية لهذه الرياضة، لما فيها من جمال الحركة وفنون اللعب، وشغف المواصلة، ما دفع الكثير منهم إلى تأليف كتب أو مقالات عن هذه اللعبة الساحرة.
كان الكاتب الفرنسي الشهير ألبير كامو، حارس مرمى في فريق كرة القدم أيام شبابه، ولم يتوقف عن ممارسة هذه الرياضة حتى بعد انتقاله إلى الأدب، قال عنها "كل ما تعلمته من الأخلاق والتزاماتها مدين بها إلى كرة القدم". فيما يقول أنطوني بيرجيس: "إذا كان للعمل خمسة أيام، وللعبادة في اليوم السادس، فإن اليوم السابع هو لكرة القدم". السير ولت سكوت يقول: "الحياة نفسها عبارة عن لعبة كرة قدم". وفلاديمير نابوكوف يقول: "حارس المرمى هو النسر الوحيد أما الرجل الغامض فهو المدافع الأخير". وذهب جورج أرويل إلى القول: "لكل أمة أسلوبها في اللعب الذي يبدو مختلفا في نظر الآخرين".
جان بول سارتر قال: "في لعبة مباراة كرة القدم، كل شيء يصبح معقدا عندما يقابل فريقان بعضهما في ساحة اللعب". وأوسكار وايلد يقول: إذا كانت لعبة - الركبي - كرة اليد مخصصة للبرابرة، يلعبها شباب أنيق.. فإن كرة القدم لعبة للشباب الأنيق يلعبها البرابرة".
وهناك عدد كبير من الأدباء والكتاب المشاهير قالوا كلمتهم في كرة القدم أمثال: جان جيريدو، وبيير باولو بازوليني، وفلاديمير نابوكوف، وسيلين، وأندريه موريس وهنري دي مونترلان، وقدروا هذه اللعبة تقديرا كبيرا. وكتبوا آلاف الصفحات حول أمجاد رياضتهم المفضلة. الكاتب الألماني بيتر هاندكه ألّف كتابا بعنوان "قلق حارس المرمى في لحظة ركلة الجزاء". والكاتب الإنجليزي نايك هورنباي -كتب سيرته الذاتية تحت عنوان "بطاقة صفراء، قصة حياته مشجع فريق أرسنال"، مصورا الخيال الذي تطلقه كرة القدم. وألّف الكاتب فيليب كير سلسلة من الروايات البوليسية حول كرة القدم. وأوليفيه غويز في كتابه "ترنيمة لكرة القدم البرازيلية".
يعبّر العديد من الكتاب عن حبهم غير المشروط إلى كرة القدم. الكاتب جان فيليب توسان في كتابه "كآبة زيدان"، وهو كتاب حيث يدعو المؤلف فيه مسيرة في داخل أعماق زيزو، وهو اسم الدلع للاعب الجزائري الفرنسي زين الدين زيدان لإمتاع القراء بكتابة مثل "كان زيدان يحدق في سماء برلين دون أن يفكر في أي شيء، سماء بيضاء تشوبها سحابات رمادية مزرقة، واحدة من تلك السماوات الهائلة والمتغيرة للوحة فنية أخاذة، حدق زيدان في سماء برلين فوق -الاستاد الأولمبي- مساء يوم 9 يوليو 2006 في نهائيات كأس العالم لكرة القدم". هكذا كتب وكأنه يكتب رواية عن بطل عاشق للكرة.
استفاض الفلاسفة والمفكرون في الحديث عن الكرة الساحرة، لأنها تجمع في أعماقها السعادة واللذة والتوتر والدراما والأمل، وتكاد تكون اللعبة الوحيدة التي يتفاعل فيها الفرد والجماعية في آن واحد. يتجلى فيها نجم واحد يكون القائد لهذا الفريق أو ذاك. يربطها غوستاف لوبون بالجنون، وجورج أمادو بنقطة جذب للمثقفين، أما غابرييل غارسيا ماركيز، كان يعلب حارس مرمى في قريته أراكاتاكا، ثم انتقل إلى الأدب منها بعد ضربة في بطنه كادت تمزّق أحشاءه كما يُقال.
وكان الشاعر الروسي يفجيني يفتوشينكو مولعا بكرة القدم كحارس مرمى. وأشار الروائي الأمريكي بول أوستر إلى رمزية الصراع في كرة القدم، مؤكدا أنها تعد بشكل ما آخر ما تبقى من حروب الماضي.
وللكتاب العرب إسهامهم في هذا العشق، فقد أحب نجيب محفوظ كرة القدم في شبابه، وكان يحضر الملاعب ويشجع الفرق التي يهواها.
وعُرف عن الشاعر محمود درويش حبه كرة القدم التي وصفها بأنها "أشرف الحروب"، واندهش كيف يحضر أمسيته الشعرية جمهور وهناك لعبة كرة قدم بين فرنسا وإسبانيا. وكتب الشاعر العراقي معروف الرصافي قصيدة عن كرة القدم، وتحدث في أبيات شعرية عن حركة اللاعبين، وقوانين اللعبة: قصدوا الرياضة لاعبين وبينهم كرة/تراض بلعبها الأجسامُ. وكتب الشاعر المصري صلاح جاهين رباعية عن كرة القدم، وجعل القلب مثلها تماما، تتقاذفه الأرجل: أنا قلبي كورة والفراودة أكم ياما اتنطح وانشاط وياما اتعكم. وكان الروائي عبدالكريم الجويطي قياديا في فريق مغربي، ومحبا لكرة القدم منذ صغره، ويعتبرها التجسيد الأسمى لدراما الحياة. وخصص فصلاً عنها في روايته "زغاريد الموت".
مما لا شك فيه أن كرة القدم ليست لعبة فقط بل تجتمع فيها كل المشاعر الإنسانية في لحظات إبداعية للبشر يعبرون فيها عن دواخلهم المكبوتة والصريحة.
على أية حال، يثير الكتّاب والأدباء الأسئلة الجوهرية حولها: هل تمنع كرة القدم التفكير؟ لكنهم يؤكدون عكس ذلك، إنها تثير التفكير والعواطف والمشاعر الإنسانية. فالفكرة الشائعة أن الكتاب والمثقفين لا يميلون للرياضة، ولكن ما استعرضناه يثبت العكس.
ورغم ذلك، هناك اختلافات بين البلدان الأوروبية والغربية، في فرنسا على سبيل هناك فصل بين معسكر المثقفين ومعسكر الرياضيين، وقد كسر هذه القاعدة في الألعاب الأولمبية في باريس عام 1924 أن اهتم بكرة القدم كل من جان كوكتو وجان جيرودو وألن فيالا وبول موران. ولكن هذا الفصل لا يوجد في البلدان الأنجلو سكسونية وألمانيا بين الثقافة والرياضة.
ما سر هذه اللعبة الساحرة التي يجبها الجميع بلا استثناء وبدرجات متفاوتة؟
في هذه اللعبة يمنع استخدام اليدين التي تحرّك الكائن البشري، يكون للأقدام الدور الرئيسي، لذا فهي لعبة مستقلة، لها قواعدها وأصولها. وعادة ما ترتبط بالطفولة، من منا لم يركل كرة في حياته؟ ومَنْ منا ليست له ذكريات مع كرة القدم؟ ومَنْ منا لم يكبر معها؟
إنها تعطينا القيم الإيجابية في المنافسة والمباراة النزيهة والشريفة، فكرة كرة القدم مثل أي مظهر إنساني غني وغامض ويحمل تناقضات فلسفية في آن واحد. فعلى هذه المساحة المستطيلة المزروعة بالحشائش الخضراء تتصارع الأقدام الذهبية من أجل تحقيق شيء ما، يحرّ: دواخلنا، وهو ما يُسمى الفوز أو الانتصار أو الفخر أو التباهي، كل العناصر النفسية تدخل ضمنها. وأهميتها تكمن أن الجمهور يشارك اللاعبين في حركاتهم، لذا نرى الجمهور يرقص، يصرخ، يفرح، ويبكي، يقفز، يتخاصم، يرفع الأعلام، لأن اللاعب يثير كل هذه المشاعر في نفسية الجمهور، فيجعله مشاركا في اللعبة لا منفصلاً عنها. وساحة لعبة كرة القدم "الاستاد" هو مكان للتجارب الأخلاقية والرومانسية والايروتيكية المتفردة، لأنها لعبة المشاعر الجماعية التي يشارك فيها الجميع في الفرح والحزن، أليس ذلك جوهر الأدب؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة