لا شك بأن روسيا تدرك تماماً خطر المشروع الإيراني الذي لا يقل خطورة عن المشروع التركي؛وهي التي تسعى من كل تلك التدخلات إلى بسط نفوذها.
خمس سنواتٍ مرّت على التدخل الروسي بشكلٍ مباشرٍ على ساحة الصراع في سوريا, وتحديداً في سبتمبر/أيلول عام 2015, والذي جاء بطلبٍ من الحكومة السورية بعدَ أنْ تفاقم الوضع الميداني على الرغم من الوجود الإيراني الذي سبق التدخل الروسي المباشر, وبعدَ أنْ أخذ المشروع التركي شكلَ الواقع المفروض واللاعب القوي على الساحة السورية آنذاك, فأسهمَ الروس في قلب الطاولة وتغيير قواعد اللعبة في ظلّ تدخل غربي باردٍ مقارنةً مع الأتراك والإيرانيين قُبيل التدخل الروسي, وما أسفر عنه من إعادة ترتيبٍ وتغيير في نهج كل اللاعبين الدوليين؛ ولا سيما فيما يخص أنقرة وطهران.
ففي بداية المشاركة الروسية في العمليات الميدانية المباشرة جواً بدأت الخريطة العسكرية بالتغير شيئاً فشيئاً على حساب المعارضة السورية, ولا سيما المدعومة تركيّا وقطَرياً, والذي بادرته تركيا بمعاداةٍ مباشرة ظانةً أنه مجرد تدخلٍ شكليٍّ لن يأخذ شكل الصراع المباشر فيما لو ضغطت أنقرة وزادت زخم الدعم لمواليها من الفصائل المعارضة, ولكنّ الأمر لم يكن كذلك مما دفعها إلى إعادة النظر في الجدية المطلقة التي دخل بها الدب الروسي على الجبهة السورية, فأعادت فتح القنوات السياسية والدبلوماسية من خلال الاعتذار عما وصفته بالخطأ والحادث المؤسف الذي سقطت به الطائرة الروسية على يد الأتراك عام 2015 والذي بررته تركيا ووصفته بالحق المشروع حينها, ليأتي الاعتذار قبل أقل من عام على الحادثة, بعد أن أيقنت الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" بأن المخاض عسير أمام ما ظنه ولادة سهلة لانطلاق المشروع السلطاني له من الأرض السورية.
لتأخذ الأحداث عقب ذلك منحى سياسة العصا والجزرة التي أتقن الكرملن اللعب على جبهتيها حتى استطاع حصر الأحلام الأردوغانية في زاويةٍ ضيقةٍ على الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا بعد إفراغ الداخل السوري من كل عنصرٍ يأتمر بأمر أنقرة خلال خمسة أعوامٍ من التجاذبات السياسية والميدانية, والجدير بالذكر أنّ التدخل القطري قد قطعت أوصاله بعد ما يقل عن عامين من التدخل الروسي؛ ليقتصرَ منذ ذلكَ الحين على الدعم الإعلامي والسياسي, أما التدخل المادي القطري فتحوّل إلى التدخل بالوكالة من خلال دعم قطر لتركيا وتفويضها بالملف المشترك فيما بينها.
ولابد من الإشارة في هذا المقام إلى أنّ التدخل الغربي الذي كانَ حذراً في بداية الأمر إبان اندلاع الأوضاع في سوريا, لا سيما وهو الذي كانَ مطمئناً إلى حدٍّ ما بعد مرور أربع سنواتٍ منذ عام 2011 إلى أنه اللاعب الأقوى القادر على فرض وتمرير السياسات التي يريدها دون أدنى عرقلة واضحة وجديّة على أرض الواقع, ليتفاجأ بدخول روسيا على جبهة الصراع بكل ما لديها من أوراق سياسية ودبلوماسية وثقلٍ دولي وعسكريٍّ, الأمر الذي خلقَ توازناً على الساحة السوريةِ حتى بات من المسلّم به بين الجميع على أنه لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يتم الأمر بحسمٍ عسكريٍّ لطرفٍ من الأطراف المتصارعة.
ولكن الأمر لم يبقَ على هذه الصورة, ففي خضم التحرك الروسي المباشر على الميدان واضمحلال التدخل التركي شيئاً فشيئاً, بالإضافةِ إلى التوازن الدولي في ميزان القوى على الساحة السورية, بدأ النفوذ الإيراني بالنمو والتسارع في حرق المراحل حتى أنّ طهران باتت ترى في سوريا عراقاً آخر بساحةٍ مكشوفةٍ ومفتوحةٍ, بل إنّها في لحظةٍ من اللحظات كانت تنافس الوجود الروسي وتصوّر نفسها على أنها الند والشريك إنْ لم تنظر لها روسيا نظرة الحليف والشريك الحقيقي الذي يجب أن تراعى مصالحه وأن يحسب حسابه في أية محاصصةٍ على المستويات السياسية والاقتصادية.
لا شكَّ بأنّ روسيا تدرك تماماً خطر المشروع الإيراني الذي لا يقلّ خطورة عن المشروع التركي؛ وهي التي تسعى من كل تلك التدخلات إلى بسط نفوذها الكامل على سوريا والتأسيس لعقدٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ برعايتها بما يضمن الاستقرار الملائم للإبقاء على الدولة السورية التي تحفظُ وجودها ومصالحها, ولعل هذا ما يفسّر الصمت الروسي وغض البصر عن الضربات الإسرائيلية التي تستهدف المصالح الإيرانية ليل نهار في سوريا, ولكن في هذه المعادلة التي لا يدخل السوريون ولا مصالحهم في قائمتها الرئيسة, و بما أنها واقعٌ مفروضٌ فإنّ السوريين قد يقبلون بالوجود الروسي بمقتضاها ولكن لا يمكن بحالٍ أنْ يقبلوا بالوجود الإيراني الذي لا يتوافق وكينونتهم لا نهجاً ولا طبيعةً ولا ذهنيةً, فروسيا التي تدرك أكثر من غيرها هذه الحقيقة لا بد لها حتى تنجز الأمر وفق معادلتها المفروضة أنْ تعدم المشروع الإيراني على الأرض السورية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة