الهزة، التي واجهتها علاقات فرنسا بأمريكا على خلفية اتفاق أوكوس، أماطت اللثام عن أزمات متعددة الرؤوس تعانيها علاقات واشنطن بأوروبا.
خيمة حلف شمال الأطلسي ظلّلت علاقات الطرفين تحت عباءة أمريكية عقودا ولا تزال، ولا ينكر أهميتها الأوروبيون.
سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه القضايا الدولية، أو معظمها، لم تكن بالضرورة متطابقة مع نهج واشنطن، لأن المسألة مرتبطة بشكل جذري بخيارات واشنطن ومصالحها العليا في هذه القضية أو تلك، بقدر ارتباطها من جانب آخر بمصالح الأوروبيين.
حين قررت واشنطن الانحياز لمصالحها الاستراتيجية القائمة على مواجهة الصين وقبلها روسيا، وفق اعتقادها، واستدارت بزاوية حرجة بالنسبة للأوروبيين، ميدانيا في أفغانستان، وسياسيا من خلال سحب صفقة الغواصات مع أستراليا من باريس، تبدّى بشكل صريح أن العواصم الغربية الفاعلة كانت "تغط في العسل"، أو في أبسط التقديرات كانت تعتقد في وجود مقعد راسخ لها على سكة القطار الأمريكي أينما اتجه وكيفما ارتأى.
لولا "أوكوس" لربما لم تَطْفُ على السطح ملامح أزمة حقيقية تتراكم فصولها منذ فترة ليست بالقصيرة بين جنبات دول الاتحاد الأوروبي، خاصة فرنسا.
هل كانت باريس مستعدة ومؤهلة لإعلاء صوتها الغاضب في وجه واشنطن ولندن وسيدني لو أن "الطعنة"، كما وصفتها، استهدفت عاصمة غربية غيرها؟
على مدار عقود من الزمن، وتحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبزوغ نجم الهيمنة الأمريكية سياسيا وعسكريا واقتصاديا، التزمت دول غرب أوروبا ظِلّ الجدار الأمريكي، طمعا في حماية عسكرية ضد الخطر السوفييتي وقتذاك، وطمعا في الغطاء السياسي لمصالحها ومناطق نفوذها في العالم، ورغبة في تحصين اقتصاداتها وتطويرها عبر التبادل التجاري وفتح الأسواق.
هل الأزمة المنبعثة حاليا بين باريس وواشنطن، ومن خلفها لندن وكانبيرا، ستكون كغيرها سحابة صيف عابرة وحسب؟ أين ستكون بقية دول الاتحاد الأوروبي في مواقفها؟ هل سيكون هناك موقف أوروبي موحد للتصدي لتحديات مواجهة "الذات"، التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على حلفائها الأطلسيين، أم سيقتصر الأمر على عواصم بعينها نظرا لوجود دول أوروبية أقل قدرة وإمكانات من أن تنخرط في صراع لا يمكن التنبؤ بمآلاته من جراء التحولات الحاصلة والمفاجآت التي قد تنبثق عنه؟ ما خيارات الأوروبيين أمام فرنسا؟
بالمقابل هل تمتلك فرنسا القدرة والإمكانية والقرار لإدارة الأزمة تحت راية الاتحاد الأوروبي بحيث تحيلها إلى فرصة لتعميق أهمية وقدرات ودور الاتحاد الأوروبي ككتلة دولية بموقف وصوت واحد؟
جملة من المعطيات الذاتية تشير إلى صعوبات كبيرة تحول دون بلورة اتفاقات داخل البيت الأوروبي على خارطة طريق أو خطة عمل موحدة تعزز وحدة الاتحاد وتنذر باستقلاليته من جانب، وتنتقل به إلى مصاف الندية مع واشنطن من جانب آخر، منها التبعية العسكرية للأمريكيين تحت يافطة الناتو، رغم وجود جيوش وطنية عريقة وضخمة لدى كل دولة، علاوة على التماهي الاقتصادي بين الاقتصادات الأوروبية، مجتمعة أو كل على حدة، مع الاقتصاد الأمريكي، والأكثر تشابكا هو التقاطع السياسي في كثير من المصالح بين الطرفين، الأمريكي والأوروبي، حيال ملفات وقضايا دولية متفرقة، وكذلك ما تشهده بعض دول القارة من تغييرات على صعيد التحالفات وصعود أحزاب أخرى إلى سدة الحكم، كما هو الحال في ألمانيا، دون إغفال أكثر التحديات الداخلية صعوبة، وهي المتمثلة في ما فرضته جائحة كورونا من أعباء على اقتصادات الأوروبيين فرادى أو مجتمعين.
قنبلة "أوكوس" فجرت مكامن الضعف داخل الأسرة الأوروبية الأطلسية، وأظهرت حدة التباين بين عواصمه الكبرى الفاعلة، إما لجهة العلاقة مع واشنطن راهنا ومستقبلا، أو بشأن وحدة الموقف الأوروبي المطلوب لدرء مخاطر ما بعد اتفاقية الغواصات بين الثلاثي الأمريكي-البريطاني-الأسترالي، وكشفت أن الخيط الحريري، الذي يربط حبّات السبحة الأوروبية، قابل للتآكل ومهدد بالانقطاع إذا لم يتم الاعتناء به وتجديده مع كل منعطف.
أمثلة التاريخ القريب والبعيد حول إمكانية تحويل التحديات إلى فرص ناجحة، وأحيانا استثنائية، شاخصة داخل الأسرة الأوروبية، ألمانيا غداة الحرب العالمية الثانية، وخارجها، اليابان في الفترة ذاتها.
ثلاثة سياقات تبرز اليوم كتحديات جدية أمام مستقبل أوروبا ككتلة موحدة، أولها سياسي معنيّ بشكل صريح بالدفاع عن هوية الاتحاد الأوروبي ككتلة متعددة اللغات والثقافات وموحدة المصالح والأهداف، وثاني السياقات عسكري يتطلب التصدي لمرحلة ما بعد "أوكوس" داخل هياكل الناتو وخيارات الاستقلال عن العباءة الأمريكية، أو التكيف والبقاء تحتها بصيغ أكثر ملاءمة للأوروبيين، أما السياق الثالث فهو الأكثر أهمية، حيث يتمحور حول ضرورة العمل للحفاظ على وحدة الاتحاد داخليا وتطوير سياسات أكثر استقلالية عن رياح المزاج الأمريكي وتقلباته على المسرحين الأوروبي والدولي، ومنها طبيعة وأسس علاقات الاتحاد الأوروبي مع الصين مستقبلا.
لا يستطيع الأوروبيون، مجتمعين أو دولا متفرقة، مواجهة الولايات المتحدة أو إشهار راية تحديها في أي مضمار نظرا للتفاوت الهائل بين إمكانيات كل طرف، لكن ليس من المستحيل تجربة وصفة جديدة من وصفات الطبخات السياسية، التي برع الفكر السياسي الأوروبي في ابتكارها على مر العصور، كالانخراط مثلا في مشروع أوروبي صرف لإدارة العلاقات مع دول العالم دون الدخول في صراع مع الأمريكيين أو التنازع على المصالح والنفوذ معهم في أي مكان من العالم.
آن أوان بزوغ قوة أوروبية وازنة مستقلة سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وتبدو باريس أكثر المؤهلين لقيادة هذا المشروع وتجسيده على أرض الواقع تزامنا مع الانسحابات الأمريكية المتتالية من بعض مواقع النزاع في العالم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة