كل خطوة تدنوها الولايات المتحدة نحو إتمام انسحابها من أفغانستان، تقابلها خطوة لحركة طالبان نحو استعادة سيطرتها على السلطة هناك.
وكأن عقدين من الزمن ذهبا هباء منثوراً، وكأن الجحافل الأمريكية التي حررت البلاد من "طالبان" و"القاعدة" لم تمر من هناك ولم يسمع أحد بقدومها.
يبدو كل شيء في أفغانستان كأنه يعود إلى ما كان عليه قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما خرجت به أمريكا من أطول حرب في تاريخها هو مجرد "وعد" من "طالبان" بأنها لن تستهدف المصالح الأمريكية حول العالم، ويمكن القول بأنه الوعد الأكثر كلفة على الإطلاق في التاريخ الحديث للبشرية.
الولايات المتحدة أنفقت في الحرب على أفغانستان نحو تريليون دولار، كما تكبدت أكثر من ألفين وثلاثمئة قتيل من قواتها، وأصيب ما يقترب من واحد وعشرين ألف جندي في أثناء القتال، بالإضافة إلى مقتل أكثر من مائة ألف مدني، فقط منذ بدء التسجيل الدقيق للخسائر المدنية عام 2009.
بتعبير واقعي صرف، خسرت أمريكا الحرب على "طالبان".
لقد أدرك الرئيس الأمريكي جو بايدن هذه الخسارة منذ 2009، وها هو ينفذ اليوم انسحابا عجز عن تمريره عندما كان نائبا للرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي زاد القوات الأمريكية في أفغانستان خلال ولايته.
خطة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان رسمها الرئيس السابق دونالد ترامب، وعندما جاء "بايدن" نفذ هذه الخطة تلبية لرغبة الشعب الأمريكي، الذي تقول استطلاعات رأي حديثة إن فئة قليلة منه تعتقد بأن الولايات المتحدة حققت أهدافها من الحرب على تنظيم "القاعدة".
ذات الإخفاق في أفغانستان تعيشه الولايات المتحدة في العراق، فبعد نحو عقدين من غزوه تستعد القوات الأمريكية للمغادرة تاركة وراءها دولة تتنازعها تنظيمات إرهابية ومليشيات إيرانية، وتواجهها جبال من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية، ولا حلول تلوح في الأفق لأي منها حتى ولو مؤقتة.
المشترك الأساسي بين "الفتوحات" الأمريكية في أفغانستان والعراق، هو ترك السلطة في البلدين بمواجهة حاضنات الإرهاب، التي جاءت الولايات المتحدة لتحاربها مطلع الألفية.
أما المشترك الثاني، فهو أن اندلاع الحرب الأهلية والتقسيم باتا أكثر السيناريوهات المتوقعة لمستقبل البلدين خلال العقدين المقبلين.
ثمة مشترك ثالث يتعلق بالاضطراب والقلق اللذين أحدثهما وسيحدثهما الانسحاب الأمريكي لجوار الدولتين والقارة الآسيوية ككل، والمدهش أن الولايات المتحدة تراهن على أن الدول الراعية للتنظيمات المتطرفة في المنطقة اليوم ستحتوي هذا الاضطراب.
ولا يزال الديمقراطيون الأمريكيون يتمسكون بالتعامل مع "القاعدة" و"داعش" و"جبهة النصرة" وبقية التنظيمات المدرجة على قوائم الإرهاب الأممية.
ولا نبالغ بالقول إن وجود هذه التنظيمات حقق مكاسب سياسية واقتصادية كبيرة للولايات المتحدة على مدار ثلاثة عقود ماضية.
حيث استغلت أمريكا التنظيمات الإرهابية لوقف المد الشيوعي في آسيا، ثم حاربتها لفرض منطق القطب الواحد حول العالم، وعندما قررت تغيير سياساتها والتوجه نحو جبهة حربها المستحدثة مع الصين، عهدت بمناطق "نفوذها" في وسط وجنوب القارة إلى رعاة هذه الجماعات والمليشيات ووكلائها.
تحاول واشنطن اليوم إقناع العالم بأن الإرهابيين الذين تقاتلهم منذ سنوات يمكن التفاوض معهم، ويمكن التعامل معهم كجماعات سياسية تستحق الوصول إلى السلطة وقيادة الدول التي تعيش فيها، ليس هذا فقط، وإنما أيضا يمكن الوثوق بهم عندما يعِدون بأنهم لن يعبثوا بمصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة.
ربما تظن أمريكا أن التصالح مع حواضن الإرهاب سيوقف إنتاج الإرهابيين، ويعم السلام الشرق الأوسط والعالم، لكن المشكلة أن الجماعات المتطرفة والإرهابية و"الإسلام السياسي" لا يعرفون العيش دون خصومة، ولا يستسيغون الحياة بسلام ودون أعداء، فالإرهاب جزء أساسي من فكر هذه التنظيمات ولا يمكن التخلي عنه بسهولة.
قد تكون النيات الأمريكية في إنهاء الحروب في هذا الجزء من آسيا صادقة وحقيقية، ولكن ما زرعته واشنطن على مدار عشرين عاماً لن يؤدي إلى هذه النهاية السعيدة التي تتمناها، فهي لم تبنِ عبر فتوحاتها في المنطقة ديمقراطيات وأنظمة سياسية تقوم على التعددية والمواطنة وحقوق الإنسان، كي يحتذى بها لاحقا.
صحيح أن القوة العسكرية الأمريكية حجمت "القاعدة" وهدمت حلم "داعش" بدولة، ولكنها لم تقضِ على الفكر الإرهابي، ولم تقتلع الإرهاب من جذوره.
لقد ترعرع العنف في جنوب وغرب آسيا تحت قشرة الأمن والأمان التي حاكتها الأسلحة الأمريكية، وتحول الكره لقنبلة موقوتة قابلة للانفجار بأي لحظة ولأي سبب.
ما يزيد الطين بلة كما يقال، أن الانسحاب الأمريكي من المنطقة سيسجل انتصارا لصالح تنظيمات الإسلام السياسي، والمنتصر دائما ما يجذب إليه الأنظار ويصبح محط اهتمام العوام.
ولأن هذه التنظيمات لا تمتلك مشاريع دول، ولا تحتفظ في جعبتها إلا بخرافات عن سيف يهيمن على الكوكب، فلك أن تتخيل النتيجة.
لم تحقق "الفتوحات" الأمريكية الهشة أحلام عشرات الملايين في القارة الآسيوية والعالم، بالانتقال إلى دول حرة.
كل ما فعلته الولايات المتحدة هو زراعة غابات من الأوهام حجبت الرؤية عما يحدث على الأرض التي وطئتها بقواتها، وعندما يغادر الجنود الأمريكيون سيتكشف للجميع حجم العفن الذي تشكل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة