عندما استفاقت الولايات المتحدة على أحداث 11 سبتمبر 2001، لم تجد أمامها سوى وضع استراتيجية بعيدة المدى لمحاربة الإرهاب.
منذ ذلك الحين باتت الحرب على التنظيمات الإرهابية أولوية قصوى للإدارات الأمريكية المتعاقبة، حيث سخرت من أجلها الأموال الهائلة والجنود والأسلحة والمعدات العسكرية والاستخبارات، فكانت أفغانستان الوجهة، حيث القاعدة وطالبان.
ومع أن الولايات المتحدة نجحت في توجيه ضربات قوية إلى التنظيمين المذكورين، وقتلت زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، إلا أن كل المؤشرات توحي بأن "طالبان" عائدة بقوة للسيطرة على أفغانستان، على وقع مضي الإدارة الأمريكية في سحب قواتها من هناك، دون أن تحقق أهدافها المتمثلة في تحقيق الاستقرار والسلام والديمقراطية في هذا البلد المنكوب بالحروب والفقر.
والسؤال هنا: ما مبررات انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان ما دامت لم تحقق هدفها المعلن، وهو القضاء على الإرهاب هناك؟
يشير معظم المحللين الأمريكيين إلى جملة من العوامل والأسباب التي يمكن تلخيصها بنقاط أساسية، هي:
1- أولوية التنافس والصراع مع الصين، وبدرجة أقل مع روسيا.
2- زوال خطر التهديد الإرهابي للداخل الأمريكي من قبل "طالبان" أو "القاعدة".
3- الانتقال إلى أسلوب جديد لمكافحة الإرهاب، يتلخص في محاربة التنظيمات الإرهابية عن بُعد، من خلال وسائل أمنية وتكنولوجية متطورة بدلا من الوجود العسكري على الأرض.
4- النظرة السلبية لمفاوضات السلام مع "طالبان" في ظل ضعف الحكومة الأفغانية.
5- أعباء تغير المناخ وجائحة كورونا.
ومع أن هذه المبررات تبدو منطقية للداخل الأمريكي، فإنها تفتقر إلى رؤية بعيدة المدى للمخاطر الجسيمة التي ستترتب على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وربما من مناطق أخرى، حيث تنشط التنظيمات الإرهابية، ولعل هذا الخطر يهدد معظم دول العالم، خاصة أن هذه التنظيمات تنظر إلى الانسحاب الأمريكي هنا أو هناك على أنه "هزيمة لأمريكا وحلفائها وانتصار لها"، وهو ما سيدفع بها إلى تصعيد نشاطاتها، ليس في أفغانستان فحسب، بل في العراق وسوريا واليمن ونيجيريا، حيث تنتشر "القاعدة وداعش وطالبان والحوثي وفصائل من الحشد الشعبي وبوكو حرام"، وغيرها من التنظيمات، التي باتت تتحدث بلغة الندية، بعد أن امتلكت الخبرات القتالية والمزيد من الأسلحة والمعدات، خاصة بعد انتشار الطائرات المسيرة.
في هذا السياق ينبغي النظر إلى التوقعات التي ترجح تحول أفغانستان من جديد إلى مرتع للتنظيمات الإرهابية، بما فيها جماعة الإخوان، وعليه قد تكون الوجهة الطبيعية لجميع هؤلاء هي أفغانستان، متماهية مع أفكار طالبان في نظام حكم تنشده، رافضة تقاسم السلطة مع باقي الأطراف الأفغانية الأخرى، وهنا ثمة من يرى الاستراتيجية الأمريكية الأبعد من مسألة الانسحاب من أفغانستان، فوصول "طالبان" إلى السلطة من جديد كاف لخلط الأوراق المحلية والإقليمية في الساحة الأفغانية من جديد، فصعودها يعني تلقائيا تشكيل جبهات جديدة في الداخل انطلاقا من الاصطفافات القبلية والطائفية والعرقية في هذا البلد، حيث تحالف الشمال المؤلف من الهزارة والأوزبك والطاجيك، مع البشتون التي يتنمي إليها الرئيس أشرف غني.. هذا التحالف الذي كان دوما يقف في مواجهة صعود "طالبان" بعد أن شهد تراخيا في السنوات الماضية، كما أن هذا المسار قد يصعد الخلاف والتنافس بين "طالبان" و"القاعدة" على الحصص والنفوذ والسلطة والرأي.
وأبعد من هذا، فإن صعود "طالبان" يخلط الأوراق الإقليمية في الساحة الأفغانية، خاصة من قبل إيران وروسيا، ومؤخرا تركيا، في ضوء مقترحها بتأمين مطار كابول، إذ إن كل طرف له تحالفات مع أطراف في الداخل الأفغاني، وهنا ربما تكمن المعادلة الأمريكية التي تتجاوز الانسحاب من أفغانستان إلى استنزاف هذه القوى، في ضوء التقارير الأمريكية التي تشير إلى دعم كل من روسيا وإيران لحركة "طالبان" سرا في مواجهة الولايات المتحدة هناك، إذ إن الغاية الأمريكية تبدو قلب الطاولة على هؤلاء.
ولعل طهران وموسكو تدركان ذلك جيدا، وهذا ما يفسر سر غزلهما العلني لـ"طالبان" مؤخرا.
بغض النظر عن الأهداف الأمريكية من الانسحاب من أفغانستان، فإن هذا الانسحاب سيترك الأخيرة لقمة سهلة لـ"طالبان" أولا، ويضع الأفغانيين أمام مصير مجهول بعد أن حلموا بالاستقرار والسلام والديمقراطية، كما يؤسس هذا الانسحاب لصعود التنظيمات الإرهابية في أفغانستان وخارجها، وهو ما سيشكل خطرا متناميا على العالم أجمع على شكل تصعيد للنزاعات القديمة وفتح أخرى جديدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة