حين يتزوج رجال من داعشيات مسجونات شرق سوريا لتحريرهن، فهو إثبات جديد أن محاربة الإرهاب تنحصر في جانب المظاهر المسلحة للوباء فقط.
فلا يهم في هذه الحرب ذلك الإرهابي، الذي يزرع الفكرة أو يروج لها أو يمولها أو يحميها أو يستفيد منها سياسيا، المهم فقط هو ذلك الذي يحمل سكينا أو مسدسا أو حزاما ناسفا ليطبقها.
ومنذ انهيار تنظيم داعش الإرهابي في مارس/آذار 2019، تعيش في مخيم الهول، شرق سوريا، عشرات الآلاف من الداعشيات، وبحسب تقارير إعلامية، تمكن المئات منهن من الخروج من المخيم، إما عبر الزواج بأشخاص تعرفوا عليهن من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو بتهريبهن لقاء مبالغ مالية كبيرة لأشخاص يعرفون مواطن الضعف في أمن المخيم مترامي الأطراف، والذي يحرسه مئات الجنود من قوات سوريا الديمقراطية، "قسد".
ثمة شهادات حية تقول إن الأزواج الافتراضيين للداعشيات يرسلون الأموال مباشرة إلى تركيا عبر تحويل بنكي، أو يرسلونها إلى بلد بلقاني ثم إلى تركيا، حيث تعبر الحدود نقدا على شكل حوالة مباشرة إلى سوريا. الكلفة يمكن أن تصل إلى نحو 15 ألف دولار بحسب جنسية المرأة وعدد أطفالها وطريقة التهريب، وعادة ما يقوم السماسرة بتنظيم عمليات الهروب إلى مدينة إدلب السورية، ومنها إلى تركيا.
الدواعش المعتقلون في سوريا والعراق، ذكوراً كانوا أم إناثا، هم جزء من نسيج ما كان يسمى "دولة الخلافة"، وعندما نتتبع التقارير التي تصف سلوك الغالبية الساحقة لهؤلاء، ندرك أن الفكر الذي جاؤوا به وعاشوا في ظله لا يزال موجودا، يمارسونه في حياتهم اليومية داخل المعتقلات، حتى أن بينهم من يراكم حقدا بداخله إلى حين الخروج والانتقام ممن هدموا "الدولة الحلم" التي "تأجل" تأسيسها، حسب زعمهم.
من يسعى إلى تحرير الداعشيات من السجون دون محاكمات أو إجراءات تعيد تأهيلهن إن أمكن، هو داعشي لم يقتل أحداً حتى الآن، أو هو ممن يصنعون القتلة ويطلقونهم.
فلا يزال هناك عشرات الآلاف من الدواعش طلقاء يعيثون إرهابا، إما بوصفهم خلايا نائمة وذئابا منفردة تنفذ عمليات مسلحة بين الفينة والأخرى، وإما باعتبارهم حماة التطرف ورعاته، الذين يوفرون له الدعم المالي والفكري واللوجيستي.
الزواج من الداعشيات المعتقلات في مخيم الهول هو شكل من أشكال دعم الإرهاب، الذي يجب على الحكومات والتحالف الدولي مكافحته، فالحرب، التي لا تأخذ بعين الاعتبار أسباب الإرهاب وأبعاده كافة، تزيد الأمر تعقيدا ولا تبشر بنهاية سعيدة ولو بعد عقود، وباختصار هي حرب لا منتهية تستثمر فيها دول محددة لغايات سياسية وخرائط نفوذ ترسم بدم أبرياء في سوريا والعراق وأماكن أخرى حول العالم.
أولئك الذين ينفقون آلاف الدولارات لتحرير الداعشيات، لا يعملون منفردين غالباً، وهم في إنفاقهم هذا يستثمرون في استمرار "فكر" الإرهاب ونسله.
فالداعشيات سيُنتجن أجيالا جديدة من المتطرفين، الذين سيتجمعون بعد أعوام قليلة ليعلنوا "دولة" أو يتمددوا في دول عدة.
لا يحتاج الأمر إلا إلى فكرة، والإسلام السياسي بتنظيماته ومنظريه ومنصاته ينضح بالأفكار، التي يمكن أن تنتج الموت وتصنع الإرهابيين.
لا نبالغ بالقول إن نُسخ التنظيمات الإرهابية تزداد سوءاً، فداعش أكثر دموية مما سبقه، وما سيأتي بعده سيكون أكثر بشاعة، خاصة إن جاء من أمهات حاقدات على العالم بسبب قتل أزواجهن ثم سجنهن مع أطفالهن، أو من فتيات رضعن الكره في وهم "دولة الخلافة" وكبرن في مخيم الهول مع النقمة على كل من يختلف معهن، وكل دولة حاربتهن، أو رفضت عودتهن إليها واستقبالهن بعد سقوط مشروع الخلافة.
تدرك حكومات الدول، التي تحمل داعشيات مخيم الهول جنسياتها، خطر عودتهن، لذلك ترفض الأمر كما ترفض عودة الدواعش الذكور.
ولكن المشكلة هي أن هذه الدول لا تفعل الكثير لإعادة تأهيل دواعشها من الجنسين عبر مراكز متخصصة تقام في سوريا والعراق، ولا تفعل الكثير أيضا لمنع فرارهم من المخيمات وهروبهم للعودة إلى ممارسة الإرهاب مجدداً، سواء في هاتين الدولتين أو في أوطانهم، التي ينقمون عليها.
ولأن دولاً في المنطقة تدعم الإرهاب، يتمكن الإرهابيون من تطوير أدواتهم كي يلتفوا على القوانين والإجراءات الدولية، التي تحاول محاصرتهم وتجفيف منابع تمويلهم وفكرهم.
كما يستطيعون، بفضل الدول ذاتها، إعادة تنظيم صفوفهم وتحرير معتقليهم في سجون "قسد"، حتى أنهم اخترقوا تلك السجون وجعلوا الأوضاع الأمنية فيها متردية جدا، وباتت تقع فيها جريمة قتل كل يوم تقريبا، وتُسجل الواقعة ضد مجهول.
الولايات المتحدة، التي ترأس التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش"، حذرت خلال الاجتماع الأخير للتحالف من تفجر مخيم الهول وغيره من مراكز احتجاز الإرهابيين شرق سوريا.
وزير الخارجية الأمريكية، أنتوني بلينكن، قال خلال ذلك الاجتماع، الذي أعلن فيه بقاء قوات بلاده في سوريا لمحاربة الإرهاب، إن هناك عشرة آلاف مقاتل لداعش في سجون "قسد"، وهذا الوضع لم يعد مقبولا ولا بد للدول من استعادة دواعشها.
قبل اجتماع التحالف ذاك في روما ببضعة أشهر فقط، قالت وزارة الخزانة الأمريكية إن "داعش لا يزال يمتلك احتياطات نقدية تبلغ قيمتها أكثر من مائة مليون دولار"، كما تقر الوزارة وغيرها من المؤسسات المعنية داخل الولايات المتحدة وخارجها بأن التنظيم الإرهابي يتلقى حتى الآن تبرعات وتحويلات مالية فردية كبيرة عبر دول في المنطقة، على رأسها تركيا، إضافة إلى أموال يجنيها التنظيم من خلال عمليات الخطف والتهريب والابتزاز.
في السابع من أغسطس/آب المقبل، سيصبح عمر التحالف الدولي لمحاربة "داعش" سبع سنوات.
بفضل ذلك التحالف هُدم زعم "دولة الخلافة"، ولكن لم ينته الإرهاب، فالطائرات والصواريخ والبنادق لا تقتل الفكر المتطرف ولا تنسف ثقافة الكره.. ربما باتت الحرب على الإرهاب تحتاج إلى أداوت جديدة، ولكن الأهم من الأدوات هو صدق نية وإرادة من يخوضونها، وإلا سنبقى ندور في حلقة مفرغة ونبدو كمن يطفئ النار بالنار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة