وقت ظهور هذه الكلمات للنور، تكون فرنسا، موطن التنوير، ومعقل الحرية والمساواة والإخاء، على بعد ساعات من الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، والتي ستجري صباح الأحد 10 أبريل/نيسان.
ويتساءل المراقبون: هل ستخدم الأقدار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ويفوز بولاية ثانية مدتها خمس سنوات، أم أنه سيسلم مفاتيح الإليزيه لرئيس جديد؟
مع الأخذ في عين الاعتبار أن هناك أسماء مرشحة، على الضد من تاريخ فرنسا التصالحي والتسامحي مع الأفكار ذات الطابع الإنسانوي، تقدم أفكارا تعبر عن يمين ظاهر لا يداري ولا يواري تطرفه.
نهار السبت الماضي، الثاني من أبريل/نيسان نظم "ماكرون" أول حشد انتخابي له، ومعروف أنه قد أرجأ حملته الانتخابية بسبب انشغاله بالأزمة الروسية-الأوكرانية.
ويتصدّر "ماكرون" قائمة استطلاعات الرأي، غير أن الفارق بينه وبين المرشحة اليمينية، مارين لوبان، يتقلص، وشعبيتها تزداد، فقد جاءت الأرقام مثيرة لقلق القائمين على حملة "ماكرون"، فقد حصل على 53% من الأصوات، مقابل 47% لغريمته.
تبدو سياقات هذه الانتخابات مغايرة لأي انتخابات جرت بها المقادير في العقود الأخيرة، فعلى القرب منها يجري نزاع عسكري، وهواجس تتهدد الأوروبيين، فيما أشباح حرب واسعة تشمل كل أوروبا تخيم على أذهان الجميع.
وفي الوقت عينه، تعيش فرنسا، كما بقية الدول الأوروبية، أزماتٍ اقتصادية، بعضها خلّفته جائحة كوفيد-19، وبعضها الآخر من صراع القيصر مع أوكرانيا، ومخاوف من توقف تدفق الغاز والنفط الروسيين، مع إجراءات "بوتين" المتعلقة بالدفع بالروبل الروسي مقال الوقود، لا بالدولار أو اليورو.
فرنسا، عشية الانتخابات، تعاني كرأس حربة أوروبية للناتو، من صراع عميق مع الحلف، الذي طال به الزمن، وقد كان "ماكرون" تحديدا هو من طالب قبل بضع سنين بتكوين جيش أوروبي، ليكون أداة للدفاع عن أوروبا، دون الارتكان للإرادة الأمريكية.
يبدو "ماكرون"، الذي يعتبره البعض رئيسا للأثرياء، أمام إشكالية أخرى قد تتهدد مستقبله في الوقت الحاضر، فالرجل المغرق في دعواته للصحوة الأوروبية عامة، وفرنسا منها في القلب، هو من لجأ ومستشاروه إلى شركة "ماكنزي" الأمريكية الشهيرة، المختصة بتقديم الاستشارات للشركات الخاصة والحكومات في مجالات شتى مقابل أموال باهظة.
يتغاضى الفرنسيون عادة عن السلوك الشخصي للمرشح، على خلاف الأمريكيين، الذي يفتشون ويدققون في التاريخ الشخصي لشاغلي المناصب، لكنهم لا يتساهلون في التصرفات، التي تتماس مع كرامة وقومية فرنسا.
وجاء التقرير، الذي نشره مجلس الشيوخ الفرنسي، وكشف فيه مدى اعتماد الوزارات الفرنسية على شركات عالمية تقدم الاستشارة، عوضا عن اللجوء إلى شركات محلية ومتخصصين فرنسيين، ليُظهر "ماكرون" كأنه "مزدوج الوجه"، يتكلم عن الشأن الوطني تارة، فيما يسعى إلى "الأجنبي المغاير" تارة أخرى، وحتى لو كان حليفا على قمة هرم الناتو مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
على جانب آخر، ربما خدمت الأزمة الروسية-الأوكرانية فرصة "ماكرون الوسطي" في البقاء خمس سنوات أخرى في الرئاسة الفرنسية، لا سيما بعد التفاف الفرنسيين من حوله، في ظل مواقفه الرافضة للعملية العسكرية الروسية، عطفا على تحركاته الدبلوماسية بين باريس وموسكو، والاتصالات التي لا تنقطع مع ساكن الكرملين، في محاولة لوقف إطلاق النار.
وفي الوقت عينه، خصمت علاقات منافسين لماكرون، لا سيما مارين لوبان وإريك زامور، بالرئيس الروسي بوتين، من حظوظهم، الأمر الذي دفعهم إلى إعادة تعديل رسالتهم والنأي بأنفسهم عن الكرملين في هذا الوقت الحرج.
وفي سياق الانتخابات عينها، يبقى التساؤل المقلق لكثير من الفرنسيين، يدور حول إمكانية فوز "لوبان" بالرئاسة هذه المرة، لا سيما بعد أن حاولت مرات عدة سابقا وأخفقت.
إذ تبدو استراتيجية "لوبان" طويلة المدى، والمتمثلة في الميل نحو اليسار على مستوى المسائل الاقتصادية، خيارا حكيما، ويُجمع المراقبون على أن "لوبان" قد تكون "الجواد الرابح" في الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية، والتي ستجري في الرابع والعشرين من الشهر الجاري.
ستكون حظوظ "لوبان" في منافسة "ماكرون" قوية إنْ تمكنت من المحافظة على "تجنب الزلّات"، التي حطمت آمالها في الجولة الثانية سنة 2017، ويتذكر الفرنسيون على وجه الخصوص مناظرة تليفزيونية بين "لوبان" و"ماكرون" كشفت كم كانت بعيدة عن تلبية تطلعات ناخبين كثيرين.
في حوار لها مع صحيفة "لوجورنال دو ديمانش"، ألمحت "لوبان"، زعية حزب "التجمع الوطني" اليميني المتشدد، إلى أنها حال مُنيت بخسارة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فربما لن تخوض سباق الرئاسة مجددا، وإنْ أكدت أنها ستستمر في الدفاع عن الشعب الفرنسي، دون أن تكشف إلى أي منصب تتطلع.
والثابت أنه إذا كان الجمهور الفرنسي قد اعتاد "مشاغبات لوبان"، فإن مرشحا مغرقا في راديكاليته السلبية، مثل إريك زامور، يبدو ظاهرة لافتة جدا للنظر.
المثير في شأن "زامور" هو قدرته على اكتساب داعمين جدد، لا سيما من المتشددين قوميا ودينيا في الوقت نفسه، ولعبه على المتناقضات، لا سيما عزفه على أوتار "الإسلاموفوبيا"، وفكرة "أسلمة أوروبا" والتحول الكبير الذي يروج له، أي أن تضحي أوروبا "قارة إسلامية".
"زامور" يجد أصواتا تدافع عنه، منها من يعتبره "محبا لفرنسا بشغف" و"مدافعا عن قيمها العقائدية التقليدية"، ومنها من يعتبر موقفه من الأجانب "إيجابيا وعقلانيا".
على أن المؤكد هو أن فرنسا، وحتى الساعة، لا تزال تحكمها الوسطية السياسية، وإن كان هذا لا يمنع من القول إن اليمين يكتسب أرضا جديدة كل يوم.
المفاجأة حتى الساعة كانت في تراجع الأصوات المؤيدة لـ"فاليري بيكريس"، مرشحة حزب "الجمهوريون" اليميني، والتي تعد "الأكثر عقلانية" في الوجوه الساعية نحو الإليزيه.
وفي كل الأحوال سوف تكشف الجولة الأولى من الاقتراع مستقبل فرنسا في السنوات الخمس المقبلة، وما إذا كانت ستمضي في اتجاه الوسطية، أم تحقق "لوبان" مفاجأة حال حصلت على أصوات كل اليمين الفرنسي المعتدل والمتطرف في مواجهة "ماكرون" في الجولة الثانية.. وغدا لناظره قريب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة