في الإجمال افتقرت بلدان منطقة اليورو إلى أدوات السياسة النقدية ودورها البالغ الأهمية في معالجة أوضاعها الاقتصادية.
ربما من الجوانب التي لم يتم الالتفات بشكل كاف إلى تقصي أسبابها الدقيقة في الاحتجاجات الفرنسية الأخيرة، وما تكرر من قبل في احتجاجات أوروبية أخرى هو اتجاه نسبة ليست قليلة من المحتجين إلى المطالبة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وتزيد هذه المطالبة في الآونة الراهنة بين بلدان منطقة اليورو تحديدا، بعد خروج بريطانيا التي لم تكن عضوا في المنطقة من الاتحاد.
افتقرت بلدان المنطقة إلى أدوات السياسة النقدية ودورها البالغ الأهمية في معالجة أوضاعها الاقتصادية، خاصة مع مرور أغلب بلدان منطقة اليورو بحالة من الجمود في النمو بتسجيل معدلات نمو منخفضة للغاية منذ انفجار الأزمة المالية العالمية وحتى الآن
الافتقار لأدوات السياسة النقدية:
أشار عدد من الاقتصاديين، وعلى رأسهم الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيجلتز، إلى ما نجم عن الوحدة النقدية من مآسٍ اقتصادية في بلدان منطقة اليورو، حيث أشاروا إلى أن إقامة الوحدة النقدية كانت سببا في تطورين مهمين: الأول هو فقدان هذه البلدان سيادتها النقدية مع إنشاء البنك المركزي الأوروبي؛ إذ أصبح هذا البنك هو الذي يضع السياسة النقدية لمنطقة اليورو ككل، وأصبح يتحكم في أحد أهم أدوات تلك السياسة وهو تحديد سعر الفائدة.
يضاف إلى ذلك أن الهوس الألماني بالتضخم قد أدى إلى جعل الهدف الرئيسي والوحيد للبنك المركزي الأوروبي هو السيطرة على معدل التضخم، ومع التفاوت في طبيعة الهياكل الاقتصادية وتفاوت معدلات النمو والبطالة وموقع البلدان الأوروبية أعضاء منطقة اليورو في الدورة الاقتصادية من حيث الانتعاش أو الركود، حدثت أزمة كبيرة مع تحديد سعر الفائدة مركزيا، إذ بينما قد تقتضي الأوضاع الاقتصادية في بلد ما خفض هذا السعر، فقد تقتضي الأوضاع في بلد آخر رفعه. وفي الإجمال افتقرت بلدان المنطقة إلى أدوات السياسة النقدية ودورها البالغ الأهمية في معالجة أوضاعها الاقتصادية، خاصة مع مرور أغلب بلدان منطقة اليورو بحالة من الجمود في النمو بتسجيل معدلات نمو منخفضة للغاية منذ انفجار الأزمة المالية العالمية وحتى الآن .
سياسة سعر صرف عاجزة
الأمر الثاني هو عدم قدرة بلدان المنطقة على تغيير سعر صرف عملتها حتى يمكنها التغلب على مشكلات وجود عجز في موازين معاملاتها الخارجية، فقد واجهت بلدان منطقة اليورو التي تعاني من مشكلات في مدفوعاتها الخارجية مأزقا، ففي ظل عدم قدرتها على تغيير سعر صرف اليورو لم يكن أمامها سوى اللجوء لما يعرف بالتخفيض الداخلي لسعر الصرف، حيث يعرف التخفيض الداخلي لسعر الصرف باعتباره خيارا للسياسة الاقتصادية والاجتماعية يهدف إلى استعادة التنافسية الدولية لمنتجات بلد من البلدان عن طريق خفض تكلفة العمل بصورة رئيسية - إما بخفض الأجور مباشرة أو بخفض التكاليف غير المباشرة للعمالة.
ويعتبر التخفيض الداخلي لسعر الصرف بديلا للتخفيض الخارجي "المعياري" الذي يتم بخفض أسعار الصرف الاسمية، على الرغم من الاختلاف الملموس في الآثار الاجتماعية وفي سرعة التعافي الاقتصادي بين كل خيار من هذين الخيارين، حيث من الواضح أن خفض الأجور سيضر بمستويات معيشة غالبية السكان من العاملين بأجر.
وعلى الرغم من اللجوء إلى تجميد أو خفض الأجور في مختلف أرجاء أوروبا، فلم ينجح هذا التخفيض الداخلي لسعر الصرف في معالجة الأوضاع في عدة بلدان أوروبية، ويشير جوزيف ستيجلتز إلى عدة أسباب وراء عدم نجاح التخفيض الداخلي لسعر الصرف؛ إذ ربما لا يؤدي انخفاض الأجور إلى انخفاض أسعار سلع التصدير - أو على الأقل لا يحدث الانخفاض في أسعار هذه السلع بالقدر الكافي، ولهذا ربما كان هذا الانخفاض لا يؤدي إلى زيادة في الصادرات - أو على الأقل حدوث زيادة في الصادرات بالقدر الكافي، وكان هناك البعض من الذين ألقوا باللوم في فشل آليات خفض سعر الصرف الداخلي على جمود الأجور- والفشل في خفض الأجور حتى في ظل تحقق نسبة مرتفعة من البطالة، إذ كانوا وفقا للنزعة الأيديولوجية النيوليبرالية المسيطرة يرون أن الأسواق من تلقاء ذاتها، وفي غياب تدخل نقابات العمال والحكومة، سوف تكون مرنة، وسوف تفرض التخفيض الضروري في مستوى الأجر.
وقد وجهوا اللوم للعمال على بطالتهم لأنهم يطالبون بأجور مرتفعة للغاية كما انتقدوا ووجود طرق عديدة لحماية الوظائف، وتركز هذه الانتقادات على القيود المفروضة بواسطة الحكومات والنقابات، ولكن كان الوضع في الحقيقة في مختلف أرجاء أوروبا، وحول العالم، هو ترافق معدلات بطالة مرتفعة مع تعديلات محدودة في الأجور في ظل ضعف النقابات وغياب القيود الحكومية.
وإلى جانب دور التخفيض الداخلي لسعر الصرف في تصحيح الاختلالات الخارجية فقد نظر إليه أيضا كوسيلة لدعم الاقتصاد الكلي الضعيف؛ لأنه من المفترض مع حدوث زيادة في الصادرات، حدوث زيادة في النمو الاقتصادي، ولكن كان النمو في الصادرات أصغر مما تم توقعه، وكان الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي أكبر بكثير مما تم توقعه، بل أكبر حتى مما يمكن نسبته للأداء المخيب للآمال للصادرات.
وقد حدث ذلك نتيجة لأن هذه السياسة لم توجه أولا اهتماما كافيا لما قد يحدث للقطاع الكبير والمهم الذي لا تدخل منتجاته في التجارة، والذي يشمل كل شيء من المطاعم إلى صالونات الحلاقة والأطباء والمعلمين، والذي عادة ما يصل حجمه إلى نحو ثلثي حجم الناتج المحلي الإجمالي. (على النقيض، فالسلع المصنعة، مثل المنسوجات والسيارات، يطلق عليها السلع "الداخلة في التجارة")، حيث كان التقلص في الطلب وفي ناتج القطاعات التي لا تدخل في التجارة نتيجة لانخفاض الدخول يفوق الاستجابة البطيئة في قطاع التصدير، وهو ما يفسر الانخفاضات الكبيرة التي حدثت في الناتج المحلي الإجمالي في العديد من البلدان الأوروبية، أو تسجيل معدلات نمو ضعيفة .
وسياسة مالية قاصرة أيضا
لم يتبق من ثم للدول الأوروبية سوى اللجوء للسياسة المالية في محاولة معالجة تدهور أوضاعها الاقتصادية، ولكن هنا أيضا تم تقليص دور السياسة المالية بفعل عاملين؛ العامل الأول هو اتفاقية الوحدة النقدية المعروفة باتفاقية ماستريخت والتي فرضت حدا أقصى للدين العام يبلغ 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وعدم تجاوز العجز السنوي في الموازنة العامة لدول منطقة اليورو نسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي معايير تحكمية اعتباطية تمت أيضا تحت ضغط الهوس الألماني بالتضخم، وصحيح أن أغلب الدول الأوروبية، بما فيها فرنسا وألمانيا، لم تحترم هذه المعايير في بعض السنوات، ولكنها ظلت سيفا مسلطا يحد من قدرة الحكومات على التدخل بكثافة لمعالجة أوضاع التدهور الاقتصادي الحاد بمحاولة التدخل بإنفاق حكومي ضخم عبر التمويل بالعجز لإعطاء دفعة للطلب الفعال وفقا للاقتصاد الكينزي.
أما العامل الثاني فكان سيطرة التفكير النيوليبرالي الذي يرى ضرورة فتح المجال أمام عمل الأسواق دون تدخل، وغالبا ما يتم اللجوء وفقا لهذا التفكير في معالجة العجز في الموازنة العامة للدولة إلى التقشف، حيث يتركز ضغط الإنفاق على مختلف البرامج الاجتماعية التي كانت وراء ما عُرف بدولة الرفاه الأوروبية التي ازدهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهي البرامج التي تفيد الطبقات الدنيا والوسطى أكثر من غيرها.
كما أن هذه الأيديولوجيا النيوليبرالية أو ما يطلق عليه البعض "أصولية السوق" كانت ترى أن تخفيض الضرائب على أصحاب شرائح الدخل المرتفعة سوف يعمل على زيادة الادخار؛ لأن أغلب دخل هذه الشرائح يذهب للادخار، وهو ما يؤدي بشكل شبه أوتوماتيكي إلى زيادة الاستثمار، وبالتالي ارتفاع معدلات النمو والتشغيل بما يحقق مصلحة الجميع وهو ما يعرف بـ"أثر التساقط"، وهو ما لم يحدث، ومن ثم كان يتم اللجوء بشكل متزايد إلى فرض أنواع أخرى من الضرائب كوسيلة لزيادة إيرادات الموازنة العامة للدولة، وهي في الأغلب ضرائب عمياء تمس الفقراء كما تمس الأغنياء دون تمييز.
- كان تأسيس منطقة اليورو إذًا بعملتها الموحدة وبنكها المركزي، والمعايير التي لجأت إليها اتفاقية الوحدة النقدية إلى جانب سيطرة عقيدة "أصولية السوق"، وما ارتبط بها من سياسات تقشف مالي، على أذهان صناع القرار في أوروبا سببا في تدهور الأوضاع الاقتصادية وتردي مستويات معيشة الأغلبية في أكثر من بلد أوروبي، وربما لهذا السبب نشهد إلى جانب الاحتجاجات الوطنية على السياسات الاقتصادية التي ترى الأغلبية، سواء في فرنسا أو غيرها، أنها تحابي الأغنياء وتضر بالفقراء، مطالبة نسبة معتبرة من المحتجين بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة