ونحن على مشارف أشهر قليلة مع حدث كوني فريد، مؤتمر الأطراف #COP28UAE الذي سيعقد في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة في نهاية نوفمبر القادم.
هذا المؤتمر الذي تُعقد عليه آمال كبيرة للخروج بحلول تنفيذية تتعلق بحماية كوكب الأرض وتقييم التقدم المحرز على صعيد مكافحة التغير المناخي وتقليل الغازات الدفيئة وسبل الحد من الاحترار العالمي وإيجاد حلول عملية لحشد الدعم وبما سيطرح فيه من مواضيع وفعاليات وحلقات نقاشية ومفاوضات وموائد مستديرة ومناقشة قضايا جوهرية في سبيل تحقيق المستهدفات العالمية منها حشد الدعم المالي.
في هذا المقال، سنقف على أبعاد هذا المؤتمر من وجهة نظر ثقافية وفلسفية، حيث إن مؤتمر الأطراف 28 يمثل فرصة مواتية للتفكير في علاقتنا بالطبيعة ومحاولة إيجاد سياقات للأفكار التي تنطلق منها هذه الجهود وإيجاد أيضاً إجابات لأسئلة المناخ والبيئة وكيفية إعادة تأكيد التزامنا بالاستدامة.. وكيف يمكن أن يكون المؤتمر منصة للحوار والنقاش والدور الذي يمكننا جميعا القيام به في خلق مستقبل أكثر استدامة.
إن تجربة دولة الإمارات باعتبارها أول دولة في المنطقة العربية تصادق على اتفاق باريس، وأول دولة تلتزم بتخفيض الانبعاثات على مستوى الاقتصاد، وأول دولة تعلن عن مبادرة استراتيجية صافي الصفر بحلول 2050 تؤكد لنا أنه من الممكن العيش في تصالح ووئام مع الطبيعة وإيجاد علاقة صحيحة متبادلة بعيداً عن فكرة استغلالها، ويمكننا جميعا إحداث فرق في حمايتها.
هذا ليس بغريب إذا ما قرأنا سيرة أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة ودرسنا مسيرتها بعين فاحصة تاريخها وثقافتها وتراثها وذهنية إنسانها ولعل من واجب جهد المقل سرد قصة أو حكاية لها صلة بالمناخ وعلاقة الإنسان الإماراتي بالطبيعة في وطنه، حكاية يمكن أن يبنى عليها فكرياً في فهم ماضي دولة الإمارات وحاضرها ومستقبلها وتتجلى فيها رسالتها السامية بمنتهى الوضوح وما من سردية أبلغ من سردية الاسم نفسه الذي تحمله أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، والسؤال كيف ذلك؟
تقول الحكاية بتعدد مروياتها وتنوعها وخلاصتها أن أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة سميت بهذا الاسم تيمناً بلقاء الإنسان بالظبي وكلاهما كان يطارد ضالته ويفتش عن الماء وشاءت الأقدار أن يكون ذلك اللقاء المتوقع عند النبع.. وبعد جهد جهيد تم اللقاء لكنهما كانا قد قضيا وعندما مر القوم خفافاً وجدوا الصياد والظبي، فسمي المكان أبوظبي.
هذه الحكاية تختصر لنا العلاقة الطردية التي جسدت المصير الواحد بين الإنسان والطبيعة وباقي الكائنات في الماضي والحاضر.
إن اسم أبوظبي في حد ذاته يحمل دلالات رمزية وعميقة عن مكانة الحياة الفطرية وكائناتها الحية من إنسان وحيوان ويعبر عن الموطن الطبيعي للتنوع الأحيائي بأنماطه الوراثية ونظمه البيئية.
والظبي كما هو معروف نوع من أنواع الغزلان يعكس مدى تأثير حضوره في الوجدان الثقافي من خلال الرمزية التي تقوم على الانتصار لثقافة الجمال والأصالة لذلك لا غرابة أن نجد تراث أبوظبي وموروثها الشعبي الغزير والغني فيه العديد من الأمثال والنصوص الشعرية التي ذكر فيها الغزال بكل مسمياته ومرادفاتها (الظبي، المها، الريم، الخشف، السولعي، الدماني.. إلخ)، كما أن النبع في رمزيته يجمع كل أسباب الحياة والمعارف مما يكشف عن علاقة إنسان هذه الأرض بالبيئة والماء باعتبارهما من العناصر الأولى للحياة والتنمية.
دولة الإمارات تتكئ على ميراث فكري وثقافي ومعجم لغوي عميق أساسه الصحراء بكل مكوناتها وبفلسفتها العميقة المنفتحة على السماوات والملكوت وعلى أسئلة الحياة والخلود والاستدامة والانسجام مع الطبيعة.. والصحراء هنا أيضاً بوصفها عنصراً فاعلاً ومؤثراً في التاريخ الوطني، ومكوناً أساسياً لثقافة الاستدامة على المستوى المحلي.
نعم هي نفسها الصحراء التي وهبت الإنسان النفط ومصادر الطاقة التقليدية والمتجددة ولا شك أنها سوف تستعيد دورها في إلهام العقول قبس الفكر الذي أورثته لإنسانها في العصور الماضية، ليقود التحول فالصحراء بحجم استيعابها للسماء وبحجم اتساعها للشمس في الأمس وهبت إنسان اليوم الطاقة الشمسية وبحجم وأعداد حبات الرمل غداً سيتم استخراج طاقة كهربائية نظيفة من رمالها الساخنة ولعل العلم والعقول المستنيرة ستقودنا أن نستكشف شيئاً جديداً من مصادر الطاقة ليضاف إلى سجل الصحراء ومفرداتها.. ربما من نجوم السماء ربما ذات يوم سنسمع عن الاعتماد على الجاذبية التي تتمتع بها الصحراء الممتدة بينها وبين السماء فيتم إنتاج طاقة ما زالت نائمة في غيابة كثبان المعارف..
أو ليست هي الصحراء نفسها التي وضعت بجفن عينيها محطة براكة التي تضم 4مفاعلات نووية تنتج طاقة نظيفة تعد اليوم من مفاخر أبوظبي على مستوى العالم!
رسالة الإمارات إلى العالم:
بهكذا عناصر صنعت دولة الإمارات تاريخها وحققت أهدافها ورؤيتها وعمق وعيها وإدراكها مبكراً، إلى أن جاء مؤسس الاتحاد أبو الإمارات الحاضر الكبير في الوجدان الجمعي لدى شعب دولة الإمارات والمنطقة العربية والعالم أجمع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله الذي أيقظ الصحراء فكرياً وبعثها من جديد فوضع الأسس بفهمه العميق لمفردات الأرض والماء والإنسان والطبيعة والهوية ولعل قصيدته الأثيرة والرائعة «دنيا ما أحلى وطرها» شاهدة على حضور ومكانة الطبيعة في وجدانه التي يقول في مطلعها:
دنيا محلا وطرها
فيها زهت الأنوار
كثر الخير وشجرها
وتوفرت الأثمار
يا ها السعد وغمرها
من والي الأقدار
عم البر وبحرها
وفاضت بها الأنهار
تتوافد القطرها
عالم من الزوار
تتفسح في شجرها
وورودها والأزهار
فيها المها مكثرها
وريومها والأمهار
يا سعد اللي نظرها
وتحف بها الأسرار
وفي قصيدته الأخرى والتي يقول فيها:
الله عطانا خير وأنعام
والحمد له واجب علينا
ياللي عطانا إيمان وإلهام
من فضله الضافي عطينا
واليوم صارت جنة أحلام
تزخر بفل وياسمينا
قام الوطن بتخطيط ونظام
زان وتزخرف وبه بهينا
وهذه النصوص وغيرها جزء من ميراث وكنوز زايد الشعرية والفكرية التي يمكن البناء عليها والاستلهام منها لفهم رؤيته ونظرته للطبيعة والبيئة ودور الإنسان في حمايتهما فقد حدد بشاعريته المتقدة ورؤيته الثاقبة وأفكاره المضيئة مسار الحياة لدى إنسان هذه الأرض وحدد طبيعة علاقته ببيئته وبالطبيعة، ولا يمكن أن يذكر الشيخ زايد إلا وتحضر في ذاكرة الناس والأجيال العديد من المشاهد وهو يخط بيديه على التراب مسار دولة تحلق بجناحي الأصالة والحداثة واتجاهها نحو الآفاق والمريخ، ومشاهده أيضاً وهو يحفر بيديه ويزرع ويسقي الأشجار فتفجرت على يديه الأفكار البِكْر كالأنهار واستطاع المواءمة بين الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية كيف لا وهو الشاعر المحب للأرض وللإنسان والطبيعة والتشجير والبناء والمحب لرفد الحياة بالخضرة وجمالها.
زايد الذي جذّر البدو الرحل في مناطقهم فجاءهم بماء الحضارة وخلاصتها وهم أهل لها بقيمهم العريقة وأنماطهم الراسخة ومنابع ثقافتهم ومضت مقولته الشهيرة "إنني لا أريد نقل البدو إلى الحضارة بل أريد نقل الحضارة إلى البدو"، وهنا هو يقصد بالحضارة أدوات الحداثة والعصرنة كمنهج خالد يستلهم منه في عيش الحاضر وبناء المستقبل، منهج راسخ مضى عليه من بعده المغفور له بإذن الله الشيخ خليفة بن زايد رحمه الله، ومن بعده صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، حفظه الله، وسادن ميراثها وحامي حماها الذي يمضي على خط والده وهو القائد الرؤيوي وصاحب الفكر المستدام والداعم للانتقال والتحول الكامل بالعقول والعلوم إلى الطاقة النظيفة نستلهم ذلك من مقولته الشهيرة التي انتشرت قبل سنوات في أرجاء العالم "إننا سنحتفل عند تصدير آخر برميل من النفط بعد خمسين عاماً" وهو بذلك يقدم أعلى نموذج مضيء وصيغة واضحة للاستدامة والتأثير الإيجابي في أعلى تجلياتهما بعد أن رسم حاضر ومستقبل دولة الإمارات لمرحلة ما بعد الخمسين الثانية.
وعوداً على بدء، ولأن العالم اليوم مشغول بتحدي الحد من انبعاثات الدفيئة ولأن هذا المصطلح اليوم أصبح رائجاً وهو من المصطلحات التي تتصل مباشرة بملف التغير المناخي والاحتباس الحراري، ملف يشغل دول العالم وخصوصا القادة ذوي الرؤية المستنيرة.. فإن في معنى المصطلح في سياق اللغة العربية ما يعبر عن الحل لتحديات المناخ فالتأمل في الجذر اللغوي لمفردة انبعاث سنجد فيها حمولة تؤسس للفكرة الموغلة في أهدافها النبيلة، حيث إن في المصطلح فضاءات تتسع لأداء رسالة فكرية كونية، جاء في معاجم العربية انْبَعَث بمعنى هبَّ واندفَع، وانبعث مصدرها انبعاث، وفي الجهة الموازية من جماليات اللغة جاء في قاموس أكسفورد Oxford languages انْبَعَثَ بمعنى سال وجرى "انْبَعَثَ الماءُ، انْفَجَرَ، انْبَثق، انبعث النور" أي بزغ، وليس هناك أعمق وأجمل من أن تكون اللغة شاهدة على الحلول المستدامة ومشيرة إليها وهذا من خصوصيات العربية.
لقد ظلم مصطلح انبعاث حين تم ربطه بمخلفات الغازات السامة والعناصر ذات النشاط الإشعاعي كأشعة ألفا وبيتا، وحان الوقت لإعادة النظر في المصطلح عربيا على الأقل فعصر الانبعاث مثلا يرادف النهضة واليقظة وإحياء الأمم والهمم.. ومن غير المنطقي أن نرث مصطلحاً ذا حمولة إيجابية ثم نربطه بما هو ضده، إذ من الممكن على سبيل المثال لا الحصر الاستعاضة بمصطلح "نفثات غازات الدفيئة" عوض "انبعاثات غازات الدفيئة"
مأسسة الوعي بالمناخ
لقد قامت دولة الإمارات العربية المتحدة بأنسنة فكرة البيئة ومأسسة الوعي بالطبيعة ونجحت في جعل مجتمعها مجتمعاً حديثاً متصلاً بالطبيعة مستنيراً فاعلاً مدافعاً عن البيئة يؤمن بالاستدامة كسلوك حياتي فالطبيعة بكل سيميائيات وجودها حاضرة في قاموسه وفعله اليومي علاوة على أن الدولة تعاملت بشكل حضاري في كل ما من شأنه أن يحمي الأرض والطبيعة من خلال سن القوانين والتشريعات التي تحفظ للبيئة مكانتها.
وبناء عليه يمكن القول إن دولة الإمارات لم تتعامل مع الطبيعية بعقلية استغلال الغلة بقدر ما تعاملت معها باعتبارها هوية ومحور وجود ومصدر فخر واعتزاز وأنه يجب احترامها وتقديرها بل وتقديسها فبادلتها الطبيعة هي الأخرى الحب بالعطاء.
إن لدى العالم أجمع في مؤتمر كوب 28 فرصة مهمة للاستفادة من ثروة المعرفة والخبرة التي لدى الإنسان الإماراتي في تعاطيه مع البيئة والاستفادة من علاقته بها ونظرته إليها.
يبقى أن نقول إن إحدى أهم الرسائل التي سيقدمها كوب 28 في دولة الإمارات هي رسائل الوعي وتعزيز العمل الجاد واتخاذ المزيد من التدابير ودعم المبادرات وإشراك المجتمعات وإعطاؤها الثقة وجعلها شريكة في الوعي المناخي وتشجيع الأفراد على السلوكيات الإيجابية وعلى استخدام التكنولوجيا واستحداث الحلول المبتكرة والاستمرار في الإيمان بالعلم والمعرفة باعتبارهما حجر الزاوية في التنمية والنهوض، وسيكون كوب28 بمثابة فرصة لتجديد ميثاق وتعهد بخفض “الانبعاثات” وهكذا هي رسائل أبوظبي بدبلوماسيتها الإيجابية دائما تجمع البشرية حول كل هدف نبيل وواجب تجاه حماية الأرض والطبيعة للحاضر وللأجيال القادمة.
هي دعوة كونية إلى أن ينظر العالم إلى انبثاق نور الوعي من الإمارات وانبعاث الفكر من قلب صحرائها لخفض “الانبعاثات”.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة