الوصول إلى ميثاق شرف إعلامي يحترم سيادة الدول، ولا يتدخل في شؤونها تحت أي حجة
إن حالة الإرباك والتشتيت التي يعيشها العالم العربي منذ قرن من الزمان، التي تم عرض أهم ملامحها في المقال السابق، تحتاج إلى وقفة حاسمة للخروج منها، والانتقال إلى حالة الاستقرار والتنمية وتحقيق كرامة الإنسان في الأمن والسلام والعدالة والحري.
وهذه الحالة لا يمكن أن تتم في ظل الأوضاع الفكرية والثقافية والسياسية التي يعيشها العالم العربي، لأن واقع العرب يحمل في طيّاته بذور تخلّفه وتفككه وإهدار طاقاته في العبث والفوضى والشعارات الزائفة.
والحل يكمن في ترسيخ مفهوم دولة الوطن، والخروج من حالة التشتت في الولاءات والانتماءات والعلاقات؛ سواء أكانت ولاءات تتجاوز الأوطان مثل الولاء للطائفة أو المذهب الديني أو الحزب القومي، أو الجماعة الدينية، أو الولاء لكيانات أقل من الوطن مثل الولاء للعرق أو المنطقة أو القبيلة، وفي كلتا الحالتين يضيع الوطن، ويتراجع دور الدولة التي تعبر عن هذا الوطن.
وللوصول إلى هذه الحالة من ترسيخ مفهوم دولة الوطن يحتاج العرب إلى التخلص من فكرة الدولة العربية الواحدة التي رسختها أيديولوجية القومية العربية التي انتهت بغزو العراق للكويت وما جرّه من كارثة يعيش العرب آثارها حتى اليوم، وكذلك التخلص من فكرة الخلافة الإسلامية التي وضع "داعش" نهاية لها كفكرة قابلة للتطبيق في هذا القرن، وفي كلتا الحالتين لا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام النفي المطلق لمفاهيم الأمة العربية أو الأمة الإسلامية؛ فهما حقيقتان اجتماعيتان حضاريتان، كل منهما: الانتماء للأمة العربية والانتماء للأمة الإسلامية من المسلَّمات الوجدانية والشعورية الراسخة في عقول وقلوب ملايين العرب على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم، ولكن الحديث هنا ليس عن الروابط الشعورية والوجدانية، وإنما على الروابط السياسية القانونية التي تولد مفهوم الولاء السياسي والانتماء الوطني، والخضوع للقانون، واحترام سيادة الدول، ومعرفة حدود الحركة، وحدود العلاقات، والوقوف عند الأطر القانونية والدستورية.
فالإنسان ينتمي شعوريا وعاطفيا لدوائر متعددة أقل من الدولة وأكبر من الدولة؛ من الأسرة إلى الإنسانية، ولكن هذا الانتماء الشعوري لا يرتب التزامات قانونية، ولا يرتب سلوكيات تتجاوز قوانين الدول والأوطان، فالانتماء للأسرة لا يدفع الفرد إلى مخالفة القانون وممارسة المحسوبية والفساد الإداري، والانتماء لطائفة أو مذهب أو جماعة دينية أو حزب قومي لا يدفع الفرد إلى خيانة الوطن، والإضرار بمصالح الدولة.
إذا اتفق العرب على احترام الدول "الوطن"، وتخلّصوا من الميراث السلبي للحركات القومية والإسلامية، حينها فقط، ستكون لديهم فرصة للعبور نحو المستقبل، وضمان عدم ظهور داعش جديد، أو "إخوان فاشلين" أو حوثيين أو مليشيات طائفية في العراق ولبنان
وللوصول إلى هذه الحالة يحتاج العرب إلى القيام بالآتي:
أولاً: إعادة تجديد الجامعة العربية من خلال اتفاقية وستفاليا جديدة.. في أكتوبر 2016 نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالا بعنوان "سلام ويستفالي للشرق الأوسط: لماذا إطار قانوني قديم من الممكن أن يعمل حاليا؟" بقلم "مايكل اكسويرثي، وباتريك ميلتون"، وكانت فكرة المؤلفيْن أن معاهدة ويستفاليا التي اختتمت حرب الثلاثين عاما في أوروبا من 1648-1618، يمكن أن تساعد في وضع حدٍّ للصراعات عميقة الجذور في منطقة الشرق الأوسط، وذلك لأن أهم موضوع رسخته اتفاقية ويستفاليا 1648 كان الاتفاق على قدسية الأوضاع القائمة، بمعنى أن الحدود الموجودة حاليا بين الدول هي حدود نهائية على ما هي عليه، دون تفتيش في التاريخ، أو ما كان موجوداً سابقاً، أي إغلاق جميع ملفات الصراعات والخلافات والنزاعات الحدودية للأبد، حتى وإن كانت حدود الكانتونات السويسرية، وأن الخريطة الدينية الموجودة حاليا هي خريطة نهائية، فلا يحق لمذهب أن يتعمد تحويل أتباع مذهب آخر، أو يحق لدولة أن تتدخل في شؤون دولة أخرى من أجل دعم مذهب أو طائفة معينة، وأن الدولة القائمة حاليا دولة ذات سيادة مطلقة، ولا يحق لأي مرجعية دينية أن تتدخل في شؤونها بحجة دينية أو إصلاحية أو نصيحة أو توجيه أو تعاطف، وبذلك يمكن إنهاء حالة العبث في العالم العربي سواء من دول تعتبر نفسها مسؤولة عن مذهب كبير مثل إيران، أو أحزاب سياسية مثل حزب الله أو الإخوان المسلمين، جميعها يُعتبر وجودها غير قانوني ومخالف لما تم الاتفاق عليه، ولكل دولة الحق في تنظيم ممارسة العمل الديني والسياسي داخل حدودها طبقا لظروفها واحتياجات مجتمعها وتجربتها التاريخية ومصالحها.
ثانياً: الاقتداء بنموذج "دول الآسيان"، وهي مجموعة دول جنوب شرق آسيا التي تأسست عام 1967 والتي تضم 10 دول؛ هي: إندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند، وبروناي، وفيتنام، ولاووس، وميانمار، وكمبوديا، وقد تأسست رابطة هذه الدول على المبادئ الرئيسية الآتية: احترام السيادة الوطنية وسلامة الأراضي الإقليمية للدول الأعضاء، ورفض التدخل الأجنبي في المنطقة، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، وتسوية المنازعات بالأسلوب السلمي، وعدم التهديد باستخدام القوة والتعاون الفعَّال.
وقد تم التعامل مع هذه المبادئ بصورة تقترب من القداسة، ففي أزمة مسلمي ميانمار وما تعرضوا له من مذابح، لم تستطع إندونيسيا أو ماليزيا أو بروناي حتى مجرد الاحتجاج، بل اقتصر دورهم على مساعدة اللاجئين، لأن ميانمار اعتبرت ذلك شأناً داخلياً، ولا يحق لأي من دول رابطة الآسيان التدخل فيما هو من صميم الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، لو أن الدول العربية لديها مثل هذا الميثاق ما ظهرت أزمة قطر، وما تمادت قطر في التدخل في شؤون جميع الدول العربية، وتنصيب نفسها سلطة أخلاقية غير مستحقة فوق جميع الدول العربية، ولما كانت هناك مقاطعة لها لوقفها عن الإمعان في الإضرار بمصالح الدول والمجتمعات العربية بدوافع من النزق السياسي والمراهقة الفكرية.
ثالثاً: الانشغال بتنمية الوطن، والنهوض بالمجتمع وتحقيق احتياجات الناس، وتحقيق التعاون بين الدول الوطنية بناءً على هذه القاعدة، بحيث تقوم العلاقات بين الدول على المصالح المتبادلة، وليس على الشعارات، والأوهام التي عادة ما تنقلب إلى ضدها، وتتحول إلى وسيلة للتصادم والصراع، لذلك كنا نشهد أن علاقات الدول العربية تنقلب من الضد إلى الضد من شعارات الوحدة الاندماجية إلى الحروب بكل أشكالها.
رابعاً: التركيز في كل دولة على التعليم والثقافة، وتغيير سلوكيات الناس، من خلال تعليم القيم في جميع مؤسسات التعليم والتثقيف، ابتداءً من خطبة الجمعة، وكل تعبيرات الخطاب الديني إلى التعليم الجامعي، بحيث يتم إعداد إنسان رشيد عاقل منطقي في تفكيره، لا يمكن التحكم فيه من خلال تحريك عواطفه، ولا يمكن التلاعب به ضد مصلحة وطنه، فكل الظواهر السلبية التي نشاهدها في العالم العربي ناشئة من فشل في مؤسسات التعليم والثقافة والخطاب الديني، فانتشار التطرف والإرهاب، وظهور التنظيمات الدينية المذهبية، أو التي تُوظِّف الدين لخدمة مشروعات سياسية، ناتج من ضحالة الفكر، وانتشار الأمية التعليمية، أو الأمية الثقافية، التي تؤدي بالإنسان إلى أن يتحول إلى أداة غير عاقلة في يد مَن يدير الجماعة أو التنظيم أو يتحكم في مرجعية المذهب.
خامساً: الوصول إلى ميثاق شرف إعلامي يحترم سيادة الدول، ولا يتدخل في شؤونها تحت أي حجة أو ذريعة مهنية أو حرية تعبير، أو غيرها، فأمن الأوطان واستقرار المجتمعات أهم كثيرا من هذه الشعارات الانتهازية التي يتم توظيفها للإضرار بمصالح دول بعينها، وسوف يثبت التاريخ أن قناة الجزيرة مثلا لم تذع خبراً واحداً يتعلق بأي شيء سلبي في دولة قطر، بينما خصَّصت قنوات خاصة لتدمير مصر.
إذا اتفق العرب على احترام الدول "الوطن"، وتخلَّصوا من الميراث السلبي للحركات القومية والإسلامية، حينها فقط، ستكون لديهم فرصة للعبور نحو المستقبل، وضمان عدم ظهور داعش جديد، أو إخوان فاشلين أو حوثيين أو مليشيات طائفية في العراق ولبنان، حينها فقط، ستكون الدول العربية دول طبيعية مثل باقي دول العالم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة