قبيل زيارة رئيس الحكومة العراقية واشنطن، انبرى العديد من الساسة العراقيين إلى مطالبته بمناقشة جدول زمني لخفض قوات أمريكا الاستشارية.
كما طالبوه بوضع هذا الجدول الزمني حسب مفهومهم عن العودة بالعلاقات الأمريكية-العراقية إلى مرحلة ما قبل سقوط "الموصل" عام 2014، ودعوه كذلك إلى العمل على نقل تلك العلاقات من الإطار العسكري إلى الإطار الشامل، المرتكز على البعدين السياسي والاقتصادي.
ثم جاءت الزيارة مع ما رافقها من تزايد الأصوات السياسية المعارضة للوجود العسكري الأمريكي في العراق، وتبادل الهجمات بين المليشيات العراقية الموالية لإيران وبين القوات الأمريكية، والأوضاع الأمنية الهشة.
وزار رئيس الحكومة العراقية، مصطفى الكاظمي، واشنطن، في 26 يوليو الماضي، لبحث مستقبل العلاقات الأمريكية-العراقية، وحسم الجدل حول وجود القوات الأمريكية في العراق، من أجل توفير فرص سياسية لهذا البلد قبل انعقاد الانتخابات النيابية المبكرة، المُقررة أكتوبر المقبل.
وبينما تؤكد واشنطن أهمية استمرار الوجود الأمريكي في العراق للقضاء على البؤر الإرهابية النشطة وضمان عدم عودة تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي أعلنت هزيمته رسميا في العراق عام 2017، فإن هناك ثلاثة أهداف قصد "الكاظمي" الوصول إليها عبر هذه الزيارة، وهي:
أولا: حجم الضغوط المفروضة على رئيس الحكومة العراقية من فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران تطالب بانسحاب 2500 جندي أمريكي من العراق، وهؤلاء الجنود هم الموجودون كجزء من تحالف مضاد لتنظيم "داعش" الإرهابي، فضلا عن ضغوط أخرى على "الكاظمي" لتنفيذ قرار البرلمان العراقي، الذي صدر في يناير 2020 عقب مقتل قاسم سليماني، وبالتالي إنهاء الوجود العسكري الأجنبي في العراق، وهو قرار ملزم للحكومة.
وقد اتجه "الكاظمي" إلى واشنطن لمطالبة الإدارة الأمريكية بإعلان انسحاب قواتها المقاتلة من العراق، مع إبقاء الدعم العسكري واللوجستي والاستخباراتي للجيش العراقي، إلى جانب مهام التدريب المستمر للقطاعات العراقية، خاصة جهاز مكافحة الإرهاب.
وكان لافتا ما أوضحه "الكاظمي" من أن العراق يختلف عن أفغانستان جغرافيا واجتماعيا، مؤكدا جاهزية القوات العراقية للدفاع عن نفسها ضد أي تنظيمات في ظل وجود الدعم الشعبي والدولي.
خلال عقدين وجدت القوات الأمريكية في العراق، ومر هذا الوجود بمحطات عدة، ففي عام 2003 انطلقت أولى صافرات الإنذار للغزو الأمريكي للعراق، ونتج عن ذلك نشر عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين، وهنا تباينت رؤى الإدارات الأمريكية حول بقاء القوات هناك، فكانت استراتيجية الرئيس السابق باراك أوباما تعارض بقاء القوات الأمريكية في العراق، بينما تبنّى "ترامب" استراتيجية تقوم على بقاء القوات هناك، معتبرا أن صعود تنظيم "داعش" الإرهابي يرجع إلى الفجوة الأمنية الناتجة عن انسحاب القوات الأمريكية من قبل.
وتمثل موقف إدارة "بايدن" في إعلان عزمها سحب قواتها القتالية المتبقية في العراق في إبريل الماضي، ومع مرور ما يقرب من عقدين من جدل واسع حول الوجود الأمريكي في العراق، أصبح الأمر يشكل قضية كبرى بعد قرار البرلمان العراقي بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق عقب مقتل "سليماني".
وهنا لا بد من الاعتراف بما تمثله القوات الأمريكية في العراق من هدف لهجمات متواترة من جانب مليشيات موالية لإيران، والتي تواجه في المقابل انتقامات عسكرية تشنها واشنطن، وبالتالي تأتي زيارة "الكاظمي" إلى واشنطن في وقت تتعرّض القوات الأمريكية في العراق لهجمات متكررة تشنّها مليشيات وتردّ واشنطن عليها، مع ملاحظة أن الولايات المتحدة ستنهي مهمتها القتالية في العراق في 31 ديسمبر 2021، لتبدأ مرحلة جديدة من التعاون العسكري معه.
ثانيا: حققت نتائج جلسة الحوار بين الجانبين العراقي والأمريكي في واشنطن انتقالا جديدا للعلاقات نحو التدريب، وتأكد أن الحرب على تنظيم "داعش" الإرهابي مرحلة تم عبورها، وأن القوات العراقية اليوم قادرة على حماية الأمن الداخلي.
ويتضح من القرار السابق أن واشنطن تضع بهذه الخطوة نهاية رسمية للمهام القتالية للقوات الأمريكية في العراق، لكنها لا ترتقي إلى إعلان انسحاب هذه القوات بشكل كامل، لأنها تعتبر علاقاتها ببغداد استراتيجية، ومن غير المطروح لدى الإدارة الأمريكية الحالية ترك العراق لإيران في ظل تردي العلاقات بين طهران وواشنطن، رغم تلميح "بايدن" باستعداده العودة إلى اتفاق إيران النووي، وبالتالي يمكن القول إن الهدف الثاني للزيارة هو محاولة طلب دعم القوات العراقية لتمكينها من أن تكون قوة أمنية قادرة على بسط الأمن في كل العراق.
ثالثا: النظرة الأمريكية المستقبلية من إدارة "بايدن" تجاه العراق كانت الهدف الأهم لرئيس الحكومة العراقية، وقد كان ملاحظاً أنه في ختام جلسة الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن، صدر بيان مشترك حول مستقبل العلاقات بين البلدين، جدَّدت فيه الولايات المتحدة والعراق تأكيدهما أهمية تعزيز الشراكة الاستراتيجية طويلة المدى، وأشار البيان إلى أن الولايات المتحدة تعتزم مواصلة دعمها للقوات الأمنية العراقية، فضلا عن ضرورة إجراء انتخابات نزيهة تسهم في مساندة سيادة العراق وتنميته.
وخلال جلسة الحوار، أعربت الولايات المتحدة عن دعمها للجهود العراقية لتعزيز الإصلاح الاقتصادي والتكامل الإقليمي، لا سيما من خلال التزامه بشبكات الطاقة الإقليمية مع الأردن ودول مجلس التعاون الخليجي.
وأكد الجانبان أنهما سيستأنفان مناقشاتهما عبر لجان التنسيق التابعة لاتفاقية الإطار الاستراتيجي، وجددا عزمهما الحفاظ على تقوية العلاقة الاستراتيجية بينهما في جميع القضايا الثنائية، وبما يخدم المصلحة الوطنية لكل بلد، بالإضافة إلى مصلحتهما المشتركة المتمثلة في الاستقرار الإقليمي.
ممَّا سبق يمكن القول إن نتائج جلسة الحوار بين الجانبين العراقي والأمريكي، استندت إلى ما يحقق أهداف استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في الشرق الأوسط، والتي تتمحور حول أهداف عدة، منها:
منع أن يكون العراق ملاذا للإرهابيين، حيث أكدت واشنطن ضرورة استمرار مهمة الأمريكيين في العراق للقضاء على البؤر الإرهابية النشطة، وضمان عدم عودة تنظيم "داعش" الإرهابي، ومنع هيمنة إيران والدول المعادية على العراق، ناهيك بدور العراق في استقرار سوق الطاقة العالمية، حيث لا يزال العراق من بين أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم، وبالتالي فإن الاحتمالات المتعلقة بتوقف إنتاجه أو منعه من الوصول لسوق الطاقة يُنذر بأزمة كبيرة للاقتصاد العالمي.
خلاصة الأمر، فقد اعتبر "الكاظمي" أن ما تم إنجازه في الحوار الاستراتيجي وحَّد مواقف القوى السياسية حول السيادة ومواجهة التحديات، وأنه يوم تاريخي للعراق وإنجاز مهم لتقييم العلاقات العراقية الأمريكية وعودة الجنود الأمريكيين إلى بلادهم.
بينما لم تُعلِن المليشيات العراقية الموالية لإيران موقفها من قرار الانسحاب الأمريكي، وربما تنتظر تعليمات من طهران بالموقف الذي عليها اتخاذه، فيما صرَّحت قوى وشخصيات فاعلة بأن الاتفاق يعتبَر إنجازا سياسيا ودبلوماسيا يُحسب لـ"الكاظمي".
تجدر الإشارة أخيرا إلى أن جلسة الحوار لم تناقش وضع استراتيجية تحدد بدقة ما يحتاج إليه العراق من الولايات المتحدة، وسبل التنفيذ خلال المرحلة المقبلة، وبالتالي فالأمر سابق لأوانه لإصدار أحكام تتعلق بنجاح أو فشل جلسة الحوار، وينبغي الانتظار لرؤية نتائج فعلية على أرض الواقع.
وحتى تحقيق ذلك، يمكن تسمية ما تم التوصل إليه بين أمريكا والعراق بأنه إعادة انتشار لتسهيل الانتخابات العراقية في أكتوبر المقبل، والترويج للانتخابات الأمريكية النصفية عام 2022 من أجل الحصول على سيطرة ديمقراطية في الكونغرس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة