يقترب اكتمال العام الثالث على بدء ما سماه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط 2022..
وقد تحولت بالفعل إلى حرب واسعة بين البلدين مباشرة، وبين الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي الغربي مقابل روسيا الاتحادية والدول المتحالفة معها سواء علنياً أو بصور مستترة.
ودارت – وتدور – رحى هذه الحرب ليس فقط على المستوى العسكري الميداني، بل امتدت وبسرعة وقوة إلى المستويات الاقتصادية والمالية والسياسية والتقنية، وغيرها من مستويات تعكس كلها خطورة هذه المواجهة التي تتخطى روسيا وأوكرانيا، لتبدو أقرب للطريق الممهد لتشكل تحالفات دولية جديدة وإحلال نظم دولية أخرى محل بعض من تلك القائمة في الوقت الراهن.
وحتى يكتمل المشهد، لابد من الإشارة إلى أن ما واجهته روسياً خلال هذه الحرب منذ اندلاعها يمثل خسائر كبيرة وبعضها فادح، فعلى الصعيد العسكري وحده تتراوح التقديرات الغربية لهذه الخسائر، وخصوصاً البشرية منها، وربما يكون التقدير الذي وضعته بي بي سي بالروسية في 20 سبتمبر/أيلول 2024، هو الأقرب للدقة، وقد قام على تحليل مدقق للبيانات المتاحة عن هذه الخسائر من المصادر الروسية، ويصل بعدد القتلى الروس إلى أكثر من 70 ألف قتيل على الأقل.
أما الخسائر الاقتصادية والمالية والتجارية، فترفعها بعض التقديرات الغربية إلى أرقام هائلة، سواء تعلقت بأضرار قرارات المقاطعة أو المصادرة الغربية بحق الاقتصاد العام والخاص في روسيا أو بمعدلات نمو الاقتصاد الروسي أو بسعر العملة الوطنية، ويشمل هذا أيضاً تكلفة الحرب والإنفاق عليها وخسائر الأسلحة والمعدات، وهو ما قدرته بعض التحليلات الغربية بنحو 60 مليار دولار على الأقل.
وبالرغم من كل هذه الخسائر الفعلية وتواصل الحرب وصولاً لحافة عامها الرابع، يبدو واضحاً من ملاحظة وتحليل التحركات السياسية والاقتصادية العالمية لروسيا، ومعها دول قريبة منها أو صديقة لها، أن هذه الحرب لم تحل دون قيامهم معاً بتحركات بارزة وتبدو مؤثرة في حاضر ومستقبل النظام الدولي السياسي والاقتصادي والمالي والتجاري. وبدا أن هذه التحركات تعتمد على رؤية أكثر استراتيجية لمستقبل العالم ونظامه الدولي والسعي لتغييرهما.
وقد أوضحت القمة الأخيرة لتجمع البريكس في قازان بروسيا، أن هذا التجمع هو الأداة الرئيسية التي يرتكز عليها هذا السعي. فبعد استمرار هذا التجمع منذ تأسيسه عام 2006 مقتصراً على خمس دول، فتح أبوابه في صيف 2023 لخمس دول أخرى لكل منها أهميتها الاقتصادية والسياسية إقليمياً وعالمياً، وضمت كلا من مصر والسعودية والإمارات وإثيوبيا وإيران لتصبح أعضاء في البريكس.
وبهذا الانضمام، وحسبما أعلن الرئيس الروسي في القمة في مقارنة دالة، أن مجموعة السبع، التي تضم الولايات المتحدة وكندا واليابان وفرنسا وبريطانيا العظمى وألمانيا بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، استحوذت على 45.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عام 1992 في مقابل 16.7% لدول البريكس حينها، بينما ارتفعت حصة دول التجمع، قبل انضمام الدول الخمس الجديدة له، من الاقتصاد العالمي لتبلغ 37.4% في عام 2023، مقابل حصة مجموعة السبع التي بلغت 29.3%، مؤكدا أن الفجوة "تتسع وستتسع" لا محالة.
وبالإضافة إلى الخطوات الاقتصادية والمالية المهمة للغاية التي تم بحثها في القمة والإعلان عنها، فيما يخص التعاون بين دول التجمع خصوصاً والنظام الاقتصادي والمالي عموماً، فقد تطرق "إعلان قازان" بوضوح خطوطاً واضحة تتعلق أيضاً بالنظام السياسي العالمي. فقد أكد الإعلان على "ظهور مراكز جديدة للقوى وصنع القرار السياسي وللنمو الاقتصادي، وهو ما يساعد في وضع الأسس لنظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر عدلًا وديمقراطية وتوازناً"، مؤكداً في فقرة تالية على أن "التعددية القطبية يمكن أن تسمح للبلدان النامية وبلدان الأسواق الناشئة بتوسيع فتح إمكاناتها البناءة، وضمان للجميع العولمة والتعاون الشامل والعادل والمنصف والمفيد".
وفي فقرة أخرى واضحة الدلالة والمقاصد، طالب الإعلان "بضرورة تكييف الهيكل الحديث للعلاقات الدولية بشكل أفضل مع الحقائق الجديدة"، بما يتطلب "الحفاظ على الدور المركزي للأمم المتحدة في النظام الدولي الذي تتعاون فيه الدول ذات السيادة لصالح الحفاظ على السلام والأمن الدوليين"، مشدداً على "الحاجة إلى ضمان التمثيل الجغرافي العادل والشامل في الوقت المناسب في الأمانة العامة للأمم المتحدة وفي المنظمات الدولية الأخرى".
وهكذا، وبينما تدور رحى الحرب العسكرية الضروس على الأراضي الأوكرانية والروسية ويتوزع جهد أمريكا ودول أوروبا بين حروب الشرق الأوسط، ومحاولة مواصلة حصار روسيا اقتصاديا، والسعي لتخفيف الآثار الاقتصادية السلبية على أوضاعها الداخلية، يبدو لفيف آخر من دول العالم، في قلبه روسيا والصين، يسير بتؤدة، ولكن بحسم واضح، نحو صياغة جديدة لشكل العالم، وهو ما يبدو أنه لن يتأخر كثيراً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة