قمة السبع.. اليابان تقود "مواجهة حاسمة" لفرض النهج الواقعي في تحول الطاقة
تقود اليابان مواجهة حاسمة مع نظرائها في مجموعة السبع، مع انطلاق قمة قادة المجموعة اليوم تحت رئاستها، بغية إقناعهم بضرورة اعتناق "النهج الواقعي" في خطط تحول الطاقة من المصادر الأحفورية إلى المتجددة.
يأتي ذلك بينما تحصد استراتيجيات الانتقال الواقعي في قطاع الطاقة، المزيد من الزخم عالميا، في ظل متغيرات جيوسياسية نشطة فرضت على الجميع الاحتكام لصوت العقل في قضية تتعلق بها مصائر الدول ومستقبل الشعوب.
من آسيا إلى أوروبا وأمريكا وحتى أفريقيا، أضحى الانتقال الطاقوي التدريجي المبني على أسس واقعية تأخذ في الاعتبار الظروف المختلفة للدول وقدراتها الاقتصادية واحتياجاتها التمويلية وخططها للنمو، الخيار الأكثر تفضيلا عندما يتعلق الأمر بالتطبيق الحقيقي، خاصة في دول مثل اليابان التي نادت بهذه الواقعية علنا، أو ألمانيا التي تبنتها بالفعل.
ومع تزايد احتياجات التنمية لدى الدول التي تسعى للوفاء بطموحات شعوبها، لم يعد الحديث عن "قطيعة" مع مصادر الوقود الأحفوري مجديا، لا سيما أن جدلا كهذا يعني مثلا أن قارة كأفريقيا عليها أن تضحي بأغلبية ثرواتها الطبيعية الكامنة في الأرض رغم فقرها الشديد وحاجتها الملحة للتنمية.
أما آسيا فهي لا تملك سوى التعامل مع حقيقة كون اقتصاداتها في مرحلة مبكرة من التطور مقارنة بتلك الموجودة في الغرب، وأن بنيتها التحتية للوقود الأحفوري أقرب إلى البداية من نهاية عمرها، مقارنةً مع الولايات المتحدة وأوروبا.
وفي أوروبا نفسها، لا يمكن إنكار العودة إلى الفحم والتوسع في الاعتماد على الغاز في ظل ظروف طاقية عصيبة عصفت بها في خضم حرب أوروبية أوروبية بين روسيا وأوكرانيا.
اليابان مصممة.. إنقاذ المناخ دون التضحية بالنمو
تعتنق اليابان فكرة الانتقال الواقعي للطاقة بحسبانها المسار العملي والواضح والأكثر أمانا لتحقيق أهداف المناخ دون التضحية بالنمو ودون المخاطرة بضمان الحصول على إمدادات مستقرة من موارد الطاقة.
ولدى اليابان خبرة عملية مريرة اكتسبتها من واقعة تسونامي 2011 والكارثة النووية التي أجبرت البلاد على زيادة اعتمادها على الفحم والغاز الطبيعي والنفط، في وقت كانت تسعى فيه لمزيج أكثر نظافة من الطاقة.
وجهة النظر اليابانية بخصوص ضرورة الانتقال الواقعي، كانت مطروحة على الساحة العالمية، حتى قبل الحرب الروسية الأوكرانية التي أثارت فوضى عارمة في قطاع الطاقة وأثبتت صحة التوجه الياباني نحو إعطاء الأولوية للحفاظ على تنويع المصادر حفاظا على الاستقرار.
آسيا.. تعطش للنمو وطريق مبتكر لصفر الكربون
في يناير/كانون الأول من العام 2022، أعلنت اليابان عن أن ثمة "شكلا جديدا من الرأسمالية" يتشكل حاليا وفي القلب منه تتمركز أهداف المناخ، وأكدت أنها مصممة على قيادة هذا الاتجاه العالمي وعرض تجارب ملموسة لكيفية تطور الرأسمالية، خلال رئاستها لمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في 2023.
وفي مارس/آذار 2023، ظهر المسار الياباني لأول مرة كطرح واقعي، من خلال مبادرة "مجتمع آسيا صفري الانبعاثات" Asia Zero Emission Community (AZEC) التي عرضتها طوكيو خلال استضافة الاجتماع الوزاري الأول مع أستراليا ودول جنوب شرق آسيا.
واليابان، التي تعتبر اليوم رابع أكبر مستورد للنفط الخام عالميا بمتوسط 2.7 مليون برميل يوميا، تأمل في أن تتبنى دول آسيا - التي تمثل ما يقرب من نصف انبعاثات الكربون العالمية - مزيجا من الطاقة، يتألف من مصادر الطاقة التقليدية، إلى جانب الأمونيا والهيدروجين والغاز، مع بناء تدريجي متزامن في استثمارات مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، للوصول إلى الهدف المناخي "صفر انبعاثات" بحلول 2050 و2060.
وبحسب صحيفة "فاينانشيال تايمز"، تأمل آسيا من خلال هذه المبادرة لجمع الدول الآسيوية معًا لمعالجة أهداف المناخ دون التضحية بالنمو الاقتصادي.
العالم ليس واحدا.. تحديات وحلول مختلفة
وترى طوكيو أن آسيا تواجه تحديات بيئية تختلف عن تلك الموجودة في أوروبا أو أمريكا الشمالية، وبالتالي فإنه يجب أن تكون وتيرة انتقالها لتلبية الأهداف المناخية مختلفة أيضًا.
ويقول ياسوتوشي نيشيمورا، وزير الاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني، إن البلدان المختلفة في جميع أنحاء العالم لديها أوضاع اقتصادية وطاقية مختلفة، وأن الطريق إلى حياد الكربون بحلول عام 2050 يجب أن يكون متنوعًا.
وبشكل ما، تتعارض وجهة النظر اليابانية مع طموحات دول في مجموعة السبع تسعى إلى تسريع التحول إلى الطاقة المتجددة بشكل شبه كامل بحلول عام 2035، وإنهاء التمويل العام الدولي للوقود الأحفوري بنهاية عام 2022، وهي رؤية تفتقر حتى إلى جدول واقعي يمكن الاعتماد عليه.
ويصل الخلاف إلى حد رفض بعض الدول كالمملكة المتحدة وفرنسا وكندا الحلول الوسط كالغاز والأمونيا والهيدروجين كمصادر منخفضة الكربون لتوليد الطاقة.
وتمثل الأمونيا والهيدروجين أعمدة رئيسية في استراتيجية اليابان لتحقيق أهداف للمناخ "التحول الأخضر GX" والتي رصدت لها طوكيو 1.1 تريليون دولار، ويتوقع أن تبرزها اليابان بقوة خلال انعقاد قمة مجموعة السبع اليوم.
وتستهدف الاستراتيجية التي أعلن عنها لأول مرة في 2022، توفير نظام أساسي وائتماني للشركات يستند إلى أنظمة تداول الكربون، بحيث يتسنى لليابان توريد تقنيات إلى "دول الجنوب" لمساعدتها على استبدال الفحم في محطات الطاقة الحالية بالأمونيا والغاز.
وفي هذا الصدد، وافقت وكالة ائتمان الصادرات اليابانية JBIC مؤخرًا على تمويل بقيمة 393 مليون دولار لمحطة طاقة تعمل بالغاز في أوزبكستان. فضلًا عن التزام رئيس الوزراء الياباني خلال زيارة أخيرة إلى موزمبيق، بإحياء مشاريع الغاز الطبيعي المسال.
أوروبا وانتكاسة الفحم.. موعظة أخرى من "كتاب الواقع"
والخلاف في مجموعة الدول السبع الكبرى، ليس بين أوروبا وآسيا وفق التصور المبدئي، بل هو على نحو آخر أوروبي أوروبي، بسبب الواقعية التي تتمسك بها ألمانيا عند التعامل مع قطاع الغاز كمصدر للطاقة.
برلين تعلمت "الدرس الواقعي" بعد أن قامت فجأة بإغلاق جميع محطات الطاقة النووية رغم كونها محايدة للكربون، قبل أن تجد نفسها مضطرة لاستخدام الفحم، وهي تحاول ألا تكرر نفس الخطأ مع الغاز.
حاليا، تصر ألمانيا على ضرورة الاعتراف بالاستثمار العام في قطاع الغاز، ولا ترى أنه يقوض إنهاء الدعم المتفق عليه للوقود الأحفوري، على عكس ما تراه بريطانيا وفرنسا.
وكان آخر بيان صدر عن قمة مجموعة السبع السابقة، التي عقدت عام 2022 بمدينة إلماو الألمانية، قد أكد أن الاستثمارات في قطاع الغاز "ضرورية للتغلب على أزمة نقص الطاقة".
ومؤخرا، مضت ألمانيا في خطط بناء محطات للغاز المسال من أجل استخدام مصادر غاز جديدة، في ظل الظروف المحيطة بها والتي تتمثل في أهمية ضمان إمدادات الطاقة.
كما أعادت ألمانيا تشغيل محطات توليد الطاقة بالفحم مؤقتًا وأجرت مناقشات مع السنغال حول استكشاف الوقود الأحفوري.
وبهذه الاستثمارات، تبددت حجج بعض الدول الأوروبية بأن استثمارات ألمانيا في الغاز "مؤقتة"، بل إن أشخاصا على دراية بالمناقشات التي دارت بين وزراء مجموعة السبع في مدينة سابورو اليابانية قبل أيام، أكدوا أن ألمانيا ما زالت تصر على صياغة البيان الختامي الجديد بشكل يدعم الاستثمار العام في قطاع الغاز.
وفي محطة واقعية أوروبية أخرى، تراجع الاتحاد الأوروبي مؤخرًا عن الحظر المبكر المقترح على السيارات العاملة بالوقود الأحفوري، وفتح الباب أمام السيارات التي تعمل بالبنزين والديزل المتبقية في السوق بعد عام 2035 - بشرط أن يتمكنوا من استخدام الوقود الاصطناعي المصنوع من الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون.
صدمة تكساس.. "واقعية طازجة" من أمريكا
على مدار العشرين عامًا الماضية تقريبًا، تمكنت الولايات المتحدة من تنمية اقتصادها مع تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ويرجع ذلك أساسًا إلى التحول من طاقة الفحم إلى الغاز الطبيعي.
وفي هذا الانتقال نفسه، جانب من الواقعية التي أبقت على المصادر الأحفورية، ولكنها بحثت عن تلك الأقل في انبعاثاتها.
ولاحقا، تبنت الولايات الأمريكية المختلفة خططا مختلفا لمرحلة جديدة من التحول الطاقي نحو المصادر الجديدة قبل أن تصطدم بظروف طارئة وصدمات تعاملت معها بواقعية شديدة.
الصدمة الأبرز كانت في تكساس التي وجهت خططها لانتقال الطاقة انتكاسة في أعقاب عاصفة مدمرة تسببت في انقطاعات خطيرة للكهرباء في جو شديد البرودة.
وبحسب دراسة نشرها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي CSIS، تسببت عاصفة الشتاء أوري والتي ضربت ولاية تكساس الأمريكية قبل نحو عامين في تداعيات سياسية دفعت المجلس التشريعي بالولاية إلى تبني مجموعة من مشاريع قوانين سياسة الطاقة المثيرة للجدل تحت عنوان SB6 والتي تستهدف استثمارات بقيمة 18 مليار دولار لبناء 10 محطات طاقة تعمل بالغاز الطبيعي.
ووفقا للتحليل الذي نشره المركز، فإن قرارات تكساس ليست خاصة بالولاية فقط، بل أن لها تداعيات ستنتشر في جميع أنحاء الولايات المتحدة في السنوات القادمة باعتبار أن جوهر المشكلة هو استقرار شبكة الطاقة وكيفية سداد تكلفتها .
أفريقيا ترفض التضحية "غير المنطقية" بالثروة
ترفض أفريقيا فرمانات العالم المتقدم التي تطالبها على نحو ما بالتخلي عن ثرواتها الأحفورية حتى يتسنى إنقاذ المناخ، وهي مطالب قادمة من دول كانت ضلعا رئيسيا في الانبعاثات الخطيرة أثناء عصور نهضتها، بينما لم تفعل أفريقيا سوى دفع الثمن من جفاف وتصحر وفيضانات.
في مؤتمر المناخ COP27 ظهر الغضب الأفريقي على نحو أوضح، حيث طالب بعض المندوبين بتأكيد استحقاق القارة للتمويل والدعم من أجل استخدام الوقود الأحفوري للهروب من الفقر، وتحسين مستويات المعيشة والتعامل مع عواقب تغير المناخ الجاري بالفعل.
ولا تتفهم القارة السمراء، المنطق في ترك مواردها في الأرض، دون أن تحصل على تعويضات كافية لطالما وعدت بها الدول الغنية ولطالما فشلت في الوفاء بها.
ومؤخرا، تراجعت بنوك التنمية ومجموعات التمويل الدولية مثل البنك الدولي عن تمويل مشاريع الوقود الأحفوري في البلدان النامية، مما أدى إلى تباطؤ بناء محطات طاقة جديدة تعمل بالفحم والغاز الطبيعي، وحدث هذا بينما زادت بعض الدول الغنية من استخدام الوقود الأحفوري ووسعت صادراتها في الأشهر الأخيرة بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
وبذلك، تطور الوضع على نحو غريب لتصبح الدول الغنية متجهة نحو تكثيف استخدامها لأنواع الوقود الأحفوري، بينما تجد البلدان الفقيرة صعوبة أكثر من أي وقت مضى في استخراج مواردها واستخدامها وبيعها.
من ناحية أخرى، يتجاهل الغرب أن محطات توليد الطاقة بالوقود الأحفوري والبنية التحتية الموجودة بالفعل في البلدان الأفريقية الفقيرة تم بناؤها في كثير من الأحيان من قبل الشركات متعددة الجنسيات التي يقع مقرها الرئيسي في البلدان الغنية أو من قبل بنوك التنمية نفسها.
وفقًا لوكالة الطاقة الدولية، فإن 770 مليون شخص، معظمهم في أفريقيا وآسيا، لا يحصلون على الكهرباء على الإطلاق.
وبالحديث عن خصوصية كل قارة أو دولة، والحاجة لتبني الواقعية في التعامل مع احتياجاتها، دعا فيجايا راماشاندران، مدير الطاقة والتنمية في معهد "بريك ثرو" إلى منح البلدان الأشد فقراً أكبر قدر من المرونة فيما يتعلق بخياراتها المتعلقة بالطاقة حتى تتمكن من التركيز على التخفيف من حدة الفقر الذي هو أكبر مشكلاتها.
ولفت إلى أن الوقود الأحفوري ومصادر الطاقة الأنظف ليسا متعارضين مع بعضهما البعض. ففي كثير من الحالات لا تكون الطاقة المتجددة وحدها عملية أو كافية لتلبية احتياجات الطاقة، فيما يمكن تحسين المصادر الأحفورية إلى موارد أنظف كالغاز.
وتابع: "إنها ليست لعبة محصلتها صفر.. فبالنسبة لبلدان مثل جنوب إفريقيا، التي تحصل على 85% من احتياجاتها من الكهرباء من الفحم، فإن هذا النوع من تبديل الوقود يمكن أن يحقق مكاسب اقتصادية وبيئية أكبر".
كل الطرق تؤدي إلى أمن الطاقة
في إطار الاحتكام للأولويات الواقعية، كشفت دراسة لمجلة الشؤون الخارجية الأمريكية الرصينة "فورين أفيرز"، أن التنافس الجيوسياسي العالمي أعاد إحياء أهمية "أمن الطاقة" وفي قلبه أربعة عوامل اعتبرتها الدراسة أساسية في توجيه هذه العملية وهي: التنويع، والمرونة، والتكامل، والشفافية.
وأكدت الدراسة أنه خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية كانت روسيا ومنتجو النفط والغاز الآخرين قد تحصلوا على زيادة كبيرة في الإيرادات، حيث أدى الطقس الصعب وخروج العالم من إغلاقات وباء كورونا إلى زيادة الطلب على الغاز الطبيعي. وكان ضعف العائدات وعدم اليقين بشأن الطلب المستقبلي على الطاقة والضغط للتخلي عن الوقود الأحفوري قد أدى خلال السنوات السابقة على ذلك في تقلص الاستثمار في النفط والغاز، مما أدى إلى عدم كفاية الإمدادات.
واعتبرت الدراسة أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية هي الدافع وراء انعدام أمن الطاقة وهي عودة التنافس بين القوى العظمى في نظام دولي متعدد الأقطاب ومشتت بشكل متزايد، وجهود العديد من البلدان لتنويع سلاسل التوريد الخاصة بها، وواقع تغير المناخ.
ويشعر الغرب عموما بالقلق من أن الانتقال السريع للطاقة الأنظف سوف ينطوي بالضرورة على اعتماد أكبر على الصين، بالنظر إلى هيمنتها على سلاسل إمداد الطاقة النظيفة.
كذلك، فإنه مع تقدم التحول السريع بعيدًا عن الوقود الأحفوري، يخشى أن تظهر نقاط ضعف وتهديدات جديدة لأمن الطاقة.
aXA6IDE4LjIyMy4xMjUuMjM2IA==
جزيرة ام اند امز