ميلاد جمال حمدان "شخصية مصر" الذي ظل رحيله غامضا
عالم الجغرافيا الدكتور جمال حمدان ومسيرته الاستثنائية بـ "شخصية مصر" وإعلانه العداء للعدو الإسرائيلي دون مواربة، تسببت في رحيله الغامض.
دخل إلى المطبخ في شقته المتواضعة بالدور الأرضي في إحدى البنايات في منطقة الدقي بالجيزة، أشعل نيران البوتاجاز ليسخن غداءه فالتهمت النيران نصفه الأسفل، حاول الجيران وحارس العقار إخماد النيران ولكن فات الآوان، رحل جمال حمدان المفكر وعالم الجغرافيا المصري، ولم يقتنع أي من الأطراف بهذه الرواية التي تحمل في جوانبها غموضا أكبر عن القاتل الحقيقي.
ماذا تعرف عن جمال حمدان؟
بين خمسة إخوة، كان جمال محمود صالح حمدان هو الثالث تقريبا، يبدو موقعا عاديا بين أسرة كبيرة، فلا هو الابن الأكبر الذي يحظى بأكبر الاهتمام أو الطفل الأصغر الذي يُمنح كل الدلال، ولكنه ولد في 4 فبراير 1928 طفلا محبا للقراءة والعلم واعتنت أسرته بتعليمه، نشأ في قرية "ناي" بمحافظة القليوبية، والتحق بمدرسة شبرا ثم المدرسة التوفيقية في مرحلة الثانوية العامة.
كان نبوغه الدرسي جليا، فاستطاع أن يحتل المرتبة السادسة على القطر المصري في الثانوية العامة، وقرر أن تكون الجغرافيا هي مجال دراسته الجامعي بعد أن ولع بها من حديث الجغرافيا بمدرسته محمود جمال الدين، فالتحق بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، وتخرج فيها متربعا على قمة أوائل دفعته عام 1948، وتم تعيينه معيدا بالكلية.
بعدها جاءته الفرصة ليسافر إلى إنجلترا، حيث تخصص في الجغرافيا التي رأى فيها أصل كل شئ، ودرس في جامعة ريدنج، التي حصل منها على درجة الدكتوراة في "فلسفة الجغرافيا" عام 1953، وهو العلم الذي يعود الفضل إلى جمال حمدان في تقديمه للوطن العربي، فالجغرافيا لم تكن بالنسبة له خطوط الطول ودوائر العرض ومواقع الدول وحدودها، ولكنه تخطى ذلك إلى البحث المتعمق وفهم طبيعة الموقع وقيمته الاستراتيجية.
الحب الأول في إنجلترا
عاش جمال حمدان حتى وفاته وحيدا منعزلا، لم يتزوج او يسعى لتكوين أسرة والحصول على رفيق لمشواره، ويبدو أن قصة حبه الأولى هي السبب، فخلال خمس سنوات تقريبا قضاها في إنجلترا، تعرّف على فتاة إنجليزية وأحبها وأراد الزواج منها، فطلب منها أن تعود معه إلى مصر.
راوغته حبيبته وأقنعته بأن يعود وحده على أن تلحق به، ومع تواجده في القاهرة ظل يراسلها لكنها تجاهلته. بعدها، أغلق جمال حمدان قلبه وتفرغ للعلم، وقرر أن تبقى تجربة حبه الأولى هي الأخيرة، وذلك بسبب كبريائه الشديد وعزة نفسه التي لا يقبل لها الإهانة.
التدريس والاستقالة
شرع جمال حمدان في التدريس بكلية الآداب وكان معيدا وباحثا، يذكر أحد طلابه كيف كانت محاضراته بذاتها نواة لأبحاث وكتب، وكان حمدان يصطحب طلابه إلى زيارة مواقع جغرافية ثرية داخل مصر من وادي حوف وحلوان إلى وادي النطرون والوادي الجديد والسويس.
كان يتعامل مع الجغرافيا باعتبارها فلسفة وأطلق النظريات حولها ولم يكتفِ بتدريسها، وكان تقديرها لها عميقا، ولذلك مع استمراره للتدريس حتى تم الإعلان عن قائمة الأساتذة المساعدين، وفور أن وجد من يسبقه في الترتيب، قدم جمال حمدان استقالته عام 1969 مستنكرا عدم تقدير مجهوده العلمي وجهده الأكاديمي.
جمال حمدان.. شخصية مصر
بعد أن استقال حمدان من جامعة القاهرة، كرّس وقته للبحث والقراءة المتعمقة والكتابة، وكان لذلك دوره الأكبر في خروج أهم موسوعة جغرافية تاريخية حول مصر، وهي سلسلته الأشهر "شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان" التي عكف على كتابتها لعشر سنوات متوالية من عام 1975 إلى 1984.
"فرعونية هي بالجد، ولكنها عربية بالأب، ثم إنها بجسمها النهري قوة بر، زلكنها بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدما في الأرض وقدما في الماء"
اعتبر كثيرون أن "شخصية مصر" هو أفضل ما كُتب عن هذا البلد، وأنه قصيدة في عضق أرض الكنانة، وركزت السلسلة التي صدرت في 4 أجزاء على جغرافية مصر بمنظور متعمق، كأنه يُشرح ويفصص مصر الدولة والموقع والمجتمع، فكانت السلسلة عبارة عن:
الجزء الأول: شخصية مصر الطبيعية
ويضم تعريف عن سمات الأرض والتضاريس الجغرافية وطبيعة المناخ في مصر، وكيف أتى وجود نهر النيل الذي فصل الصحراء ليخلق الوادي والدلتا، وذلك عبر أبوب: من الجيولوجيا إلى الجغرافيا، الصحراوات، نهر النيل.
الجزء الثاني: شخصية مصر البشرية
وتناول جمال حمدان في هذا الجزء الجانب الأكثر حيرة في مصر وهم البشر وطبيعتهم التي تحمل قدر كبير من التفرد، فدرس تجانسهم وارتباطهم الحضاري وأصلهم في علم الأنثروبولوجي، وضم الجزء الثاني 4 أبواب، هي: التجانس، وثوابت جغرافية ومتغيرات تاريخية، شخصية مصر السياسية، البناء الحضاري والأساس الطبيعي.
الجزء الثالث: شخصية مصر التكاملية
عبر عن شخصير مصر بمفهوم التكامل من خلال الاقتصاد الذي يركز على الزراعة، والتغيرات التي طرأت على الاقتصاد المصري وأهم المؤثرات به، وتحول مصر إلى الصناعة، والصناعات التي قدمتها وثروتها المعدنية.
طبعة خاصة من موسوعة "شخصية مصر " لجمال حمدان
الجزء الرابع: شحصية مصر الحضارية
حاول جمال حمدان أن يحدد أبعاد الهوية المصرية وانتمائها الإفريقي والآسيوي ودورها الإقليمي ومكانتها عربيا إسلاميا ومحاولات "المشروع الإسرائيلي" إبعاد مصر عن الزعامة العربية، ويقول جمال حمدان عن هذه الزعامة والقيادة:
"لعل الاختبار النهائي لزعامة مصر في أن ترقى لمسئوليتها عن استرداد فلسطين للعرب، وإذا صح أن نقول إنه لا وحدة للعرب بغير زعامة مصر، فربما صح أن نقول إنه لا زعامة لمصر بين العرب بغير استردادها فلسطين للعرب لأنه لا وحدة للعرب أصلا بدون استرداد فلسطين"
أهم أعمال جمال حمدان
انعزل جمال حمدان بشقته البسيطة المكونة من غرفة واحدة وصالة بالدقي، ومكث بها السنوات يقرأ ويبحث ويقدم للبشرية أعمالا قدمت التحليل الاستراتيجي والرؤية الستقبلية والبحث الأنثروبولوجي، وتقديم كل ذلك في سياق عام متناسق، فقدم كتب ومقالات ودراسات عن الجغرافية والسياسة والاستعمار، وكانت قضية فلسطين همه الأكبر، ومن بين أهم مؤلفاته:
- دراسة في جغرافيا المدن- 1958.
- بترول العرب- 1964.
- اليهود أنثروبولوجيا- 1967.
- استراتيجية الاستعمار والتحرير- 1968.
- الجمهورية العربية الليبية: دراسة في الجغرافيا السياسية- 1973.
- أفريقيا الجديدة- 1975.
بخلاف مقالاته المتخصصة وأبحاثه المتأنية وعلمه الوافر، الذي وصل إلى 39 كتابا و79 بحثا، كان جمال حمدان رساما وخطاطا، فحرص على تصميم أغلفة كتبه وتنفيذ اسمها بنفسه، ونال في حياته جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية عام 1959، التي قيل إنه رفضها، كما حظي بجائزة التقدم العلمي من دولة الكويت 1992، ووسام العلوم من الطبقة الأولى عن كتابه "شخصية مصر" عام 1988، بينما جاء كشخصية معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2020.
كيف تم اغتيال الدكتور جمال حمدان؟
ومع إرثه العلمي الكبير، لم يحظ جمال حمدان بالتقدير الكافي في حياته، فعاش على الكفاف زاهدا في شقته المتواضعة، ويقال إن تطوع كثير من الكُتاب من أجل أن يحظى بمعاش استثنائي أو أن تعيد جامعة القاهرة النظر في عودته إلى التدريس، كان يقابلها بغضب شديد لدرجة أنه قاطع الكاتب أحمد بهاء الدين عندما عبر عن ذلك في أحد مقالاته.
وبسبب وحدته وعزلته، كان الأمر كأننا نترك كنزا في العراء، فكان جمال حمدان عرضة لكثير من المؤامرات من المتربصين به، فسكنه وحده عرضه للقتل، فظلت واقعة رحيله في 17 أبريل عام 1993 عبر حاث لم يُقيد ضد فاعل، وتم اعتباره مصادفة حزينة، تفتح كثير من التأويلات حول الحقيقة.
فالحديث عن اشتعال النار في جسده في أثناء تسخينه للطعام، دحضها الكاتب يوسف العقيد بأن جمال حمدان كان يأكل طعامه باردا، وأن هناك علامات وكدمات على رأسه توحي بأنها السبب في الوفاة، بعد أن شك كثيرون في رجل وامرأة أجنبيان سكنا الشقة التي تعلوه قبل شهر ونصف تقريبا من الحادثة، واختفيا تماما بعدها مع وجود ترجيحات أنهما إسرائيليين.
وبعد رحيل جمال حمدان وسرّه معه في جنازة متواضعة، كان يستعد لكتب اعتبرها الأهم في حياته: "اليهود والصهيونية"، و"العالم الإسلامي في الاستراتيجية العالمية"، و"العلوم والجغرافيا"، واختفت هذه الكتب بشكل تام بعد رحيله، وهو ما يزيد الشك تجاه العدو الإسرائيلي وجهاز الموساد بالتسبب في مقتله.
ويظل ملف اغتياله غامضا، خاصة بعد قرار أسرته بالاكتفاء بتحقيقات النيابة وتقييد القضية ضد مجهول، دون التقدم بدعوى قانونية تتهم أي طرف من الأطراف، ولكن تبقى كتاباته وأبحاثه نورا في طريق الضلال، ووصفة لعلاج مشكلات مصر والنهوض بها
aXA6IDMuMTQ0LjMxLjg2IA== جزيرة ام اند امز